التفسير الموضوعي للجهل في القرآن: دراسة لآية “يحسبهم الجاهل أغنياء”
مفهوم “الجهل” في القرآن الكريم من المواضيع المهمة التي تستحق البحث والتحليل، حيث يحمل دلالات متعددة تتجاوز المعنى الحرفي للكلمة. هذا المقال يتناول التفسير الموضوعي للجهل في القرآن، مسلطًا الضوء على آية {يحسبهم الجاهل أغنياء} (البقرة: 273)، ومحاولة فهم ما إذا كانت تنفرد بمعنى مختلف عن الاستخدام العام لكلمة “جاهل” في القرآن.
مفهوم الجهل في القرآن الكريم
الجهل في القرآن الكريم يصف السلوك والتصرف الأخلاقي، ويُستخدم دائمًا في الذم، لا في مجرد الوصف لعدم العلم:
المتتبع بمنهج استقرائي استقراءً تامًا للآيات التي وردت فيها مادة “جهل” بمشتقاتها المختلفة (تجهلون، يجهلون، جاهلين، جاهلون، جاهلية) يوقن أن معنى جهل في القرآن الكريم يطلق على من أساء التصرف، وقلّل الأدب في سلوكه، ولم يوافق فعله أو قوله الأخلاق. فكل جاهل في القرآن الكريم يحمل ذمّا، وليس مجرد الوصف بما هو ضد العلم. أدناه نماذج دالة:
• ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: 67]
• ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: 35]
• ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]
• ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: 55]
يضاف إلى هذا أن الجهل في القرآن بناءً على الاستقراء أيضًا لم يرد للدلالة على ما يُضاد العلم والمعرفة كما رأينا في النماذج السابقة. فالقرآن الكريم يستخدم في ذلك -مقابل العلم أو المتعلم- مصطلحات مثل: الأمي أو نفي العلم: لا يعلمون، وغير ذلك. ولم يرد في القرآن بهذا دلالة الجهل بما يرادف الأمية. إلا أن ثمة آية تجعلنا نتريث في تعميم هذا الحكم، وهذه الآية هي: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].
فهل هذه الآية تخالف دلالة بقية آيات مادة “جهل” في القرآن الكريم؛ فتكون الوحيدة التي تدل على المدح لا الذم، أم هي أيضًا تدل على ذم، وليس فيه استثناء لباقي معاني مادة جهل في القرآن، وأنه لا يعني بها ضد المعرفة؟
معنى “يحسبهم الجاهل أغنياء” وفق السياق كما فهمه الباحث
قبل الحديث عما أفادته كتب التفاسير فيما يتعلق بمعنى الآية أذكّر أنه:
• لم أقف على حديث ورد فيه هذه الآية، يعني لم تفسر السنة النبوية الشريفة هذه الآية وفق ما لدينا من كتب أحاديث بمختلف تصنيفاتها وأنواعها.
• ولم يرد للآية سبب نزول في كتب أسباب النزول.
• ولم أقف على تفسير كلمة جاهل بالأثر؛ أي لم يفسرها المفسرون بآية أخرى، أو بأثر من صحابي أو تابعي.
• مما يعني أن التفاسير الموجودة هي بالاعتماد على اللغة. وهذا يعني أن التفسير الوارد في شرح الآية هو تفسير بالرأي المحمود، حيث لا تفسير بالأثر بتاتا، وفق اطلاع الباحث.
وهذا جعلني أقرأ السياق محاولًا فهم الآية وفق دلالة اللغة العربية معتمدًا على القرائن، وباستحضار الاستخدام القرآني لمادة “جهل” ومشتقاتها المختلفة. وعليه أقول: الآية تتحدث عن من يستحقون الإنفاق الخاص بعد حديثها عن الإنفاق العام الذي يشمل النفقة على كل محتاج مسلم كان أو غير مسلم. فتحدث عن فقراء محتاجين في يثرب.
وسبب احتياجهم هو أنهم هاجروا من مكة خوفًا على دينهم، ولم يبدأوا العمل والتكسب والتجارة بعد، كما أنهم حصروا أنفسهم وأوقفوها في سبيل الله. فليس عندهم ما يكفيهم، وهم مع ذلك يتمتعون بالعفة التي تمنعهم من سؤال الناس. وهذا يعني أن كل المعطيات تشير إلى فقرهم، وأن فقرهم واضح للعيان من الوهلة الأولى. وقد لا يحتاج ذلك ذكاءً. وبخاصة أن الآية ذكرت أن علامة الفقر واضحة عليهم يُعرفون بها؛ “تعرفهم بسيماهم”، ولا يشترط أن تكون هذه السمة خفية بحيث لا يعرفها إلا المتفطن اللبق الألْمَع الذكي. فالأمر أبسط من ذلك، فأثر السجود سمة واضحة: “سيماهم في وجوههم من أثر السجود”، والعلامة التي تظهر على الخرطوم واضحة: “سيماهم على الخرطوم”.
وعليه هل من الممكن تفسير الجاهل بأنه المنافق، والكافر، أو الغبي والمتغطرس البخيل المستغلّ، فهو يتعجب من حال إنسان مهاجر محتاج، أَكَل عليه الدهر وشبع؛ كيف لا يسأل الناس. وبما أنه ما سأل فهو فعلاً غير محتاج، إذ لربما لديه من الأموال والثروات ما يخفيه!! فالجاهل هنا مذموم مثل كل كلمة جاهل في القرآن الكريم، ولا يعني الجهل هنا الأمي أو ما يأتي ضد العلم، أو غير العالم بحالهم، إذ العلم بفقرهم واضح، لكن ينطع الرجل ولا يريد أن يصدق فقره!
تفسير المفسرين لعبارات “الفقراء المحصورين” و”سيماهم”
يذكر العلماء في تناسب الآيات أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير، مسلماً كان أو كافراً، بيّن في هذه الآية أن الذي يكون أشد الناس استحقاقًا بصرف الصدقة إليه هو (الْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ)، كما أفاد الرازي في التفسير الكبير.
ويذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس ما يدلّ على الربط بين الآيات، حيث قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا، فُرُخِّصَ لهم، فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنُفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. عن ابن عباس، عن النبي ﷺ: أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. يعني إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عملُه، وهذا معنى حسن، وحاصلة المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجرُه على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: البرّ أو الفجَّار أو المستحقّين أو غيرهم، هو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ }.
فكأن السياق يقول: يجوز الصدقة على الفقير المحتاج، مسلماً كان أو كافراً، لكن الفقير المهاجر الذي بين ظهورهم هو أكثر من يحتاج النفقة، لأنه مهاجر، لا عمل له، قطع نفسه في سبيل الله، وهو عفيف لا يسأل. مما يؤكد أن كلمة الجاهل لا تعني انعدام العلم بفقره، إذ ذاك واضح وظاهر لا ينكر.
العلاقة بين “يحسبهم الجاهل أغنياء” وبين “تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ”
العلاقة بين “يحسبهم الجاهل أغنياء” وبين “تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ” تنفي تفسير “الجاهل” بمن لا علم له بحالهم لدلالة حالتهم على وضوح فقرهم بمجرد رؤيتهم
إذا كان فقرهم ليس بظاهر، فكيف ورد “تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ”؟ وبالأخص لو تم تفسير ذلك كما هو عند أكثر المفسرين بما يدل ظاهريًا على الفقر من رثاثة الثياب ونحالة الوجه. ولذلك نفى الإمام الرازي أن يكون المراد هو العلامة الجسمانية الظاهرة، لأن في ذلك تعارضا. يقول: “قال مجاهد {سِيمَاهُمْ} التخشع والتواضع، قال الربيع والسدي: أثر الجهد من الفقر والحاجة، وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع، وقال ابن زيد: رثاثة ثيابهم والجوع خفي. وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر، وذلك يناقضه قوله {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعًا في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم، وذلك إدراكات روحانية، لا علات جسمانية. ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة”.
فبالربط بين “يحسبهم الجاهل أغنياء” وبين “تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ” يدرك المتبصر أن الجهل لا يعني انعدام العلم.
يضاف إلى هذا أنه –كما جاء في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور– لما كان غالب هذه الأحكام التي ذكرت في الإنفاق من أجل المحاويج وكان ما مضى شاملاً للمؤمن وغيره، بيّن أن محطّ القصد في الحثّ عليها المؤمن قال سبحانه وتعالى: (للفقراء) أي هذه الأحكام لهم، (الَّذِينَ أحصروا ) أي منعوا عن التكسب، وأشار بقوله: (في سبيل الله) أي الذي له الجلال والإكرام، إلى أن المقعد لهم عن ذلك الاشتغال بإقامة الدين بالجهاد وغيره، (لا يستطيعون ضرباً فِي الْأَرْضِ) بالتجارة لأجل ذلك، وأشار إلى شدة رضاهم عن الله سبحانه وتعالى بعدم شكايتهم، فقال: (يحسبهم الجاهل) أي الذي ليس عنده فطنة الخلاص “أغنياء” من ( أجل ) التعفف، (عن المسألة والتلويح بها قناعة بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى مولاهم ورضي عنه وشرف نفس)، والتعفف تكلف العفة وهي كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه – قاله الحرالي .
ولما ذكر خفاءهم على الغبي ذكر جلاءهم عند المتوسم فقال: (تعرفهم) أي يا أبصر الموقنين وأفطنهم أنت ومن رسخت قدمه في متابعتك (بسيماهم) قال الحرالي: وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم، وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر ..
تفسير المفسرين لــ: “لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ” و”تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ”
تفسير المفسرين لــ: “لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ” و”تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ” دليل على أن الجاهل لا يعني من لا علم له بحالهم لوضوح فقرهم
أولًا: تفسير “{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}”
يقول ابن كثير: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و{لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش.
وقد أورد الخازن في تفسيره: “وهم فقراء المهاجرين كانوا نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، وكانوا يأوون إلى صفة في المسجد يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله ( ﷺ ) وهم أصحاب الصفة، فحث الله تعالى الناس على مواساتهم، فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وقوله تعالى: (الذين أحصروا في سبيل الله) يعني هم الذين حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وقيل: حبسوا أنفسهم على طاعة الله. (لا يستطيعون ضرباً فِي الْأَرْضِ)، يعني لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش والكسب، وهم أهل الصفة الذين تقدم ذكرهم، وقيل حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله، وقيل هم قوم أصابتهم جراحات في الجهاد مع رسول الله ( ﷺ ).
جاء في تفسير الرازي: “نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائة، وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد، يتعلمون القرآن، يصومون، ويخرجون في كل غزوة”.
ثانيًا: تفسير تعرفهم بـ “سيماهم”
من المعاني التي أوردها الطبري عن سيماهم قوله: “وقد اختلف أهل التأويل في “السيما” التي أخبر الله جلًّا ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم، وأنهم يعرفون بها. فقال بعضهم: هي التخشُّع والتواضع… وقال آخرون: تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم. وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم.”
ثم رجح جميع ما ذكر بقوله:
“قال أبو جعفر: وأول الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه ﷺ أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ ﷺ يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة. وقد يجوز أن تكون تلك السيما تخشُّعًا منهم، وأن تكون أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون رثاثة الثياب، وأن تكون جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضرّ في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضرّ، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيَّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته”.
جاء في تفسير البيضاوي: “{تعرفهم بسيماهم} من الضعف ورثاثة الحال”، وهذه علامات واضحة.
وجاء في تفسير الحازن: هي الخضوع والتواضع، وقيل هي أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقيل: هي صفرة ألوانهم من الجوع ورثاثة ثيابهم من الضر.
وجاء في تفسير مقاتل: “تعرفهم بسيماهم، يعني بسيما الفقر عليهم”.
وجاء في تفسير أضواء البيان: “فصرح بأنهم فقراء وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال. ووجه إشارة الآية إلى شدة فقرهم، هو ما فسرها به بعض أهل العلم، من أن معنى قوله {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم”.
وقال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور: وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يقول: تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وأخرج بن جرير، عن ابن زيد {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} قال: رثاثة ثيابهم. انتهى. ومثل هذا كثير في كلام المفسرين.”.
أخيرًا، هل من المفسرين من نفى أن يكون الجاهل بمعنى “غير المتعلم”؟ نعم، نفى ذلك بشكل غير مباشر الرازي كما قد تقدم، ونفاه صراحة أكثر من واحد:
يقول صاحب اللباب في تفسير الكتاب: “والجاهل هنا: اسم جنس لا يُراد به واحدٌ بعينه. ولم يرد – هنا – به الجهل الذي هو ضدّ العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختبار، يقول: يحسبهم من لم يُختبر أمرهم أغنياء.
وهكذا فلعله يمكن تعميم حكم استقراء معنى الجهل في القرآن والقول بأن كل مادة جهل ومشتقاتها في القرآن الكريم تدل على الذم، وهو يصف السلوك والتصرف الأخلاقي، ولا يصف وجود المعرفة من عدمها. وهذا التفسير الموضوعي بمنهج استقرائي استقراءً تامًا ودقيقًا وجديرًا بالتنبيه إليه.
خلاصة
بناءً على التحليل الذي تقدم والمعطيات التفسيرية، يمكننا الاستنتاج أن الآية “يحسبهم الجاهل أغنياء” لا تنفرد بمعنى مختلف عن الاستخدام العام لكلمة “جاهل” في القرآن. بل تُستخدم الكلمة هنا في سياق يشير إلى سوء تقدير الآخرين لحالة هؤلاء الفقراء المهاجرين، مما يعكس استمرار الدلالة السلبية للجاهل في القرآن الكريم فيما يتعلق بالسلوك والأخلاق، وليس مجرد نقص المعرفة. هذا التفسير يتماشى مع المنهج الاستقرائي الذي تبناه الباحث ويؤكد على أهمية فهم الكلمات في سياقاتها الشرعية والأخلاقية بدلاً من الاعتماد على التفسيرات الحرفية البحتة.