الجـــــــــــزء الأول
كان يعيش خلف قضبان مظلمة، لا يعرف في الحياة شيئاً سواها، نسي جميع ما في الحياة من فرح وسعادة وابتسام، لم يكن في قلبه سوى العذاب والألم والهزيمة. عندما دخل السجن بتهمة التسبب في وفاة عدة أشخاص بسبب تهوره في القيادة، حكم عليه بالسجن أو دفع الدية، كانت عائلته متوسطة الحال فلم يستطيعوا تحمل نفقة الدية، فتركوه يواجه مصيره الذي كان هو سبباً فيه، ودعوه عندما دخل السجن بدموع الحسرة على شبابه، أحس بالغبن والظلم والغضب من أهله لأنهم تركوه وحيداً في محنته وطلب منهم عدم زيارته في السجن. لم يكن يشارك في أي نشاط حتى الدروس الدينية لم يكن يحضرها لأنها كانت تذكره بضرورة بره لوالديه وتذكره بضرورة التكاتف والنظر إلى المستقبل بعين مشرقة، فهو يحس بأن كل ذلك قد ضاع منه في غمضة عين، شاب في مقتبل العمر على خلق عالٍ لم يشتكي منه أحد من الجيران أو الأصدقاء خريج جامعي وذو وظيفة، يحمل كل تفاصيل الوسامة لم يكن ينقصه شيء، يعيش بين عائلة متحابة وسعيدة ربت أبناءها على الخلق والفضيلة كل ما كان يؤرقهم هو طيش ابنهم في القيادة وخوفهم الشديد عليه من نتائج هذه القيادة.
منذ صدور الحكم عليه وهو لا يغادر زنزانته إلا للضرورة القصوى أو لقضاء حاجة لم تفلح معه محاولات زملائه السجناء أو الحراس في أن يخرجوه من حالة الكآبة التي انتابته بدأت حالته في التدهور أخذ يقضي الساعات في الشرود وأصبح النوم ألد أعدائه، فلم يكن هناك بد من عرضه على طبيب نفسي ليساعده على اجتياز الحالة التي يمر بها. في تلك الفترة كان الطبيب النفسي المسئول عن هذا السجن قد انتهت فترة التعاقد معه فتم الاستعانة بطبيبة سجن النساء في الكشف على حالته، ريثما يتم تعيين طبيب جديد. رفض الذهاب إليها ولكن إصرار مدير السجن أجبره على الخضوع والذهاب إلى الطبيبة، لم يتعاون معها أبداً وطلب منها عدم استدعائه نهائياً مرة أخرى، حاولت أن تقنعه بأن ما تفعله هو في صالحه وعليه أن يتعاون معها حتى يتجاوز محنته وبأن هناك من يمر بأشد مما هو عليه ولكنهم متعاونون جداً وروحهم المعنوية عالية جداً ولهم أمل كبير في التغيير والبدء من جديد. بذلت محاولات مستمية لجعله يغير من تفكيره ولو قيد أنمله ولكنها لم تحصل منه إلا على إجابة واحدة وهي (أنا بخير ولا أحتاج لعلاج، شكراً) أدبه الشديد وسلوكه القويم وهدوئه مع الجميع جعله محبباً وزاد من قلق المحيطين به عليه وهذا ما جعل الطبيبة تحاول معه تكراراً ومراراً.
في زيارته الأخيرة إلى الطبيبة، دخلت فتاة تقاربه في السن ولكنها تختلف عنه في سلوكها فهي جميلة المحيا ضحوكة، ابتسامتها تزيد روحها المرحة جمالاً وتألقاً، كل ما بها ينطق بالحياة حتى حياؤها واحمرار وجنتيها عندما رأته، فهي لم تتوقع أن يكون موجوداً عند زيارتها لشقيقتها الطبيبة التي حاولت تدارك الموقف وإصلاحه وقامت بتعريفهما على بعضهما: سهيل هذه أختي سارة، سارة أحب أن أعرفك على سهيل، ابتسمت له وقالت تشرفنا سهيل كيف حالك واكتفى هو بالإيماء برأسه حتى أنه لم يلتفت إليها، طلب الاستئذان بأدب شديد وغادر الغرفة وهي مازالت واقفة عند الباب حينها فقط اصطدمت عينيه بأرق وأعذب ,وأنقى عينين رآهما في حياته، فعينيها كانت كما وصف الشاعر ابن سناء الملك صاحبته كحلاء قائلاً:
تخطو وتخطر في حلٍ وفي حلل .............. وتنثر السحر بين الكحل والكحل
كحلاء ما اكتحلت بالميل عابثةً .............. إلا لتنهـض جفنيــها من الكســـل
أشاح بوجهه بسرعة لأنه لم يستطع أن ينظر إليها أكثر من ذلك وهو في موقفه. دخلت سارة ومازال وجهها محمراًُ من الخجل، ضحكت شقيقتها وسألتها ماذا حل بك؟ لم أتعود أن أراك مصدومة هكذا من قبل، تنبهت سارة لسؤال شقيقته وأجابت لا أدري ولكني لم أتوقع أن أرى سجيناً أمامي يحمل كل هذه الوسامة لم تستطع الطبيبة أن تتمالك نفسها من الضحك وهي ترى نظرات الإعجاب من شقيقتها، طلبت سارة من شقيقتها أن تحكي لها حكاية سهيل ولما هو في السجن ومما يتعالج، أجابتها مريم بأنها سوف تحكي لها كل شيء وهما في الطريق إلى المنزل بدا الاهتمام واضحاً على سارة وهي تستمع إلى قصة سهيل من شقيقتها خصوصاً وأنها في السنة النهائية في الجامعة وهي تدرس علم النفس لتصبح فيما بعد أخصائية اجتماعية أو اختصاصية نفسية تساعد المجهدين نفسياً وبدا لها أن حالة سهيل جديرة بالاهتمام وأنها تصلح أن تكون عنواناً لمشروع التخرج الذي كانت تبحث له عن موضوع مميز. استغربت الطبيبة مريم عندما سمعت ما تريد سارة القيام به ولكن سارة ترجت أختها لتوافقها على طلبها وأن تساعدها في ذلك، رفضت مريم بشدة طلب شقيقتها وقالت لها بأن شرف المهنة يتطلب أن الأمانة مع المريض ولكن سارة ألحت على شقيقتها وقالت لها بأنها سوف تعيد الثقة إلى سهيل وستساعده على الخروج من الحالة النفسية التي يمر بها، حاولت مريم أن تبين لها بأن كل المحاولات قد باءت بالفشل معه ولم يستطع أحد أن يخرجه مما هو فيه فكيف ستستطيعين أنت القيام بذلك وأنت لم تكتسبي الخبرة الكافية في مجال العمل، بدأت سارة في شرح الطريقة التي ستقوم بعلاج سهيل من خلالها لمريم وقالت لها بأن الإنسان بطبعه يحب الغموض ويحب استكشاف ما هو خاف عنه وأنتم في السجن لا تستخدمون عنصر التحفيز لاكتشاف المستقبل أمام السجين فكل شيء واضح أمامه، وطريقه معروف وأيضاً أنتم لا تهتمون كثيراً بالناحية العاطفية للسجين، فأنتم تركزون على الناحية النفسية والعملية والعقلية لهم دون النظر إلى احتياجاتهم العاطفية والتي يكون لها أكبر الأثر على الصحة النفسية للسجين، بدأت مريم تشعر بالاهتمام بحديث سارة وسألتها ولكن كيف ستقومين بعلاج الحالة العاطفية وبطريقة غامضة، طلبت سارة من شقيقتها أن تعدها بأن تقوم بمساعدتها إن هي اقتنعت بالفكرة طلبت مريم أن تسمع الفكرة أولاً وعلى ضوئها ستقرر إن كانت ستساعدها أم لا وافقت سارة وبدأت في عرض الفكرة على مريم وهي تدور حول إرسال رسائل من مجهول إلى سهيل يدور محورها حول معالجة حالته العاطفية المتدهورة ولكن بأسلوب علاجي مختلف بدت الفكرة ممتازة من الناحية العلاجية في نظر مريم ولكنها تخوفت من أن تكون نتائجها عكسية على حالته النفسية إن هو اكتشف أن صاحبة الرسائل تريد فقط أن يكون هذا المريض مشروعاً دراسياً وبأن كل ما جاء في الرسائل هو وسيلة للنجاح في إنهاء المشروع الدراسي. لكن سارة أقنعت مريم بأن تتحدث مع مدير السجن لترى رأيه في الموضوع خصوصاً وأنه مهتم بحالة سهيل ويريده أن يتحسن سريعاً. |
الموضوع الأصلي :
سجين خلف قضبان الحب || الكاتب :
الحب ياسمين || المصدر :
شبكة همس الشوق