«صيد الخاطر» عبارة سمعتها ولم أعرها اهتمامًا في بداية الأمر، وفي إحدى المرات بعد سماعها، وجدتها عالقة في أذني، وتمر على ذهني فأخذت أفكر فيها، وأتمعن معناها.. وأسقطها على واقعي، فوجدتني أفرط كثيرًا في أفكار ترد على خاطري، ولم أتصيدها، وسرعان ما أنساها، وأحاول فيما بعد أن أعثر عليها لكن دون جدوى. فقررت أن أتخلى عن هذه العادة المضيعة للأفكار، وأن يكون معي قلم وورقة أدون فيها كل فكرة أو خاطرة ترد على ذهني، وكانت المفاجأة أنني وجدت حصيلة من الأفكار ساعدتني كثيرًا في مقالاتي وأبحاثي ودراساتي.
ومن العجيب أن إحدى صديقاتي أتت تشكو لي نفس ما عانيته سابقًا.. قائلة: ترد على خاطري بين الحين والآخر أفكار مهمة في مواضيع متنوعة، منها أفكار متعلقة بحياتي الخاصة، وأفكار أخرى متعلقة بحياتي العملية، فأتتبع هذه الأفكار برهة من الوقت، وأتركها منشغلة عنها بأمور أخرى، وبعد مدة من الوقت أحاول تذكرها كي أستفيد منها، لكن من دون فائدة تذكر، فقد ضاعت هذه الأفكار وسط زحام الأفكار التي تملأ ذهني. ومهما حاولت التذكر تكون نتيجة البحث أيضًا لا توجد هذه الأفكار التي تبحثين عنها - ذهبت ولم تعد، فأشعر بندم كبير على ضياع هذه الأفكار بتقصيري في تصيدها، وسرعان ما أنسى أو أتناسى غيظي هذا وأعود إلى عادتي في ضياع الأفكار ؛ وللأسف الشديد ترسخت في نفسي هذه العادة المقيتة، وأجد نفسي عاجزة عن التخلص منها. وأشعر بمدى خسارتي من وراء ذلك، فمن المؤكد أن تسجيل هذه الخواطر حال ورودها سيكون له أثر كبير في حياتي العلمية والعملية والشخصية.
كيف تولد الأفكار وترد على ذهنك، وكيفية اصطيادها؟
يقول «ديوبولد فان دلين»: «تولد الأفكار في لحظات خاطفة, وقد تتلاشى من مخيلتك إلى الأبد ما لم تسارع بتدوينها، قد تظهر الأفكار المثمرة في أغرب الأوقات، ولن تبزغ هذه الأفكار دائمًا وأنت تعالج المشكلة المتعلقة بها، ولكن قد تواتيك ومضة من الاستبصار في الوقت الذي تكون فيه مشغولاً بأعمال أخرى أو مشتركًا في محادثة أو منصتًا إلى محاضرة أو قائمًا بالتدريس أو عاكفًا على قراءة كتاب أو مسترخيًا بالمنزل، وحتى لو بدت هذه الفكرة لحظة ورودها واضحة تمامًا أو مهمة للغاية بحيث يستحيل نسيانها فهناك دائمًا احتمال أن تضيع منك فيما بعد.
لذلك حينما تنبني في عقلك نـواة لفكرة احفظها مباشرة كتابة للاستفادة منها في المستقبل، فالاحتفاظ بمذكراتك منظمة إبان البحث يستثير التفكير الناقد ويؤدي إلى اكتشاف أفكار جديدة».
أهم الوسائل الناجحة للاستفادة من الأفكار
ومن صفات الأفكار أنها تولد وترد على ذهنك في لحظات سريعة خاطفة، ويجب عليك أن تتعامل (تتعاملي) معها كي تستفيد (تستفيدي) منها بأحد الوسائل الناجعة.. من أهمها:
1- رسخ (رسخي) في نفسك أن قيمتك الثقافية والاجتماعية بين الناس تبنى على ما تطرحه من أفكار، فإن كانت أفكارك ذات قيمة فستكون ذات قيمة في مجتمعك، وإن كانت العكس فستكون قيمتك بحجم ما تطرحه من أفكار! وهنا تظهر أهمية اصطياد الأفكار وتدوينها والاحتفاظ بها.. فهي تمثل لك رصيدًا لا ينفد.. يعينك على الاحتفاظ بمكانتك اللائقة داخل مجتمعك. وفي كثير من الأحيان تعود الأفكار المتميزة على صاحبها ليس فقط بالنفع المعنوي، بل بالنفع المادي أيضًا إذا استغلها في ابتكار ما، وحصل من خلاله على براءة اختراع مثلًا..! فمن المعلوم أن كل الاختراعات تبدأ بفكرة تمر على ذهن المخترع.. والفرق بين المخترع وغير المخترع أن المخترع يتشبث بالفكرة التي قد يراها غيره فكرة تافهة لا تساوي التمسك والاحتفاظ بها، بل قد يرى - غير المخترع - أن التمسك بها ضرب من ضروب الجنون.. ولكن بعد حين نرى أن هذه الفكرة البسيطة قد تحولت - بإرادة الله - ثم بجهود المخترع ودأبه وراءها إلى شيء مادي ملموس على أرض الواقع نافع للبشرية.. فما الطائرات - على سبيل المثال- التي لا تستطيع البشرية الاستغناء عنها الآن إلا فكرة وردت على أذهان أناس لديهم صفات ودأب المخترعين تمسكوا بها، واجتهدوا وعملوا على تحقيقها، فكانت حقيقة وواقعًا وفائدة عظيمة للبشرية جمعاء.
2- احتفظ (احتفظي) في جيبك بقلم ومفكرة، أو ورقة صغيرة، وسارع بتدوين أي خاطرة أو فكرة تخطر بذهنك، ولا تدقق في أهمية هذه الخاطرة، بل دونها ثم ابحث في أهميتها في وقت لاحق. وفي هذا يقول أحد الشعراء: «أحتفظ دائمًا في جيبي بورقة وقلم، بل وبجوار سريري أيضًا، فكثيرًا ما تأتيني فكرة قصيدة، وتنهال على ذهني أبياتها، وإن لم أكتبها في لحظتها تاهت مني الفكـرة، وتلاشـت من ذهـني الأبيات».ويقول أديب - قاص - آخر: «كثيرًا ما حـرمت أفكـارًا جيدة لقصص قصيرة، بسبب عدم اكتراثي بأدوات حفظها، من تدوين ورقي أو آلي عن طريق الكمبيوتر، وكنت أظن أن هذه الأفكار كما أتت ستعود وكان ظنًا واهمًا واهيًا، حيث فطنت أن الذاكرة لا تحتفظ كثيرًا بما لا أعينها على الاحتفاظ به من تركيز وتدوين».
3- أن تركز (تركـزي) في هذه الأفكار، وتسلطي كل طاقاتك الذهنية عليها، وتسيري وراءها، وتفكري في أسبابها، وما ترمي إليه من نتائج، بحيث تترسخ هذه الأفكار في ذاكرتك، التي ستسعفك بهذه الأفكار دون شك عند العودة إليها طالبة استرجاعها.
لتصبح إداريًا ناجحًا.. كيف تدير عملك الإداري بالأفكار؟
إن العمل الإداري من أهم الأعمال، بل يعد عصب الحياة في المؤسسات والشركات، ونجاح أي مشروع أو مؤسسة أو شركة يتوقف بالدرجة الأولى على كفاءة وجودة إدارته، وهذه الكفاءة لا تأتي بالتمني والادعاء بل بالمزيد من العلم والخبرة والاطلاع والتدريب ومجاراة كل جديد في علـم الإدارة. وخاصة الإدارة الحديثة وما تحتويه من تجديد في المفاهيم والنظريات والمبادئ، قدمت العديد من الفوائد الجليلة للقطاعات الإدارية بمختلف أنواعها وأشكالها، وكان من أهم ما قدمت ما يسمى: الإدارة بالأفكار.
وقد ظهرت الإدارة بالأفكار كغيرها من العلوم الحديثة في الدول الغربية، وذلك في سبعينيات القرن الماضي، وأتى هذا الظهور بعد ظهور علم الإدارة بالأهداف بعقدين من الزمان، والذي انتشر على مستوى العالم في فترة زمنية وجيزة. وتتلخص فكرة الإدارة بالأهداف في أنها: أسلوب إداري يقوم على مشاركة الرؤساء والمرؤوسين في المؤسسة أو الشركة أو المنظمة بتحديد الأهداف الوظيفية لكل موظف في الشركة، ثم تتم المقارنة بين أدائه الفعلي لوظيفته والأهداف المحددة مسبقًا، وفي حالة وجود انحراف أو تقصير يتم توجيه الموظف نحو الأهداف المحددة والمخطط لها من قبل.
وقد توصل علماء الإدارة إلى أن الفكرة تسبق تحديد الهدف، وهذا أمر طبيعي، فالموظف تأتي له الأفكار قبل أن يحدد أهدافه الوظيفية، وكلما كانت هذه الأفكار ذات قيمة كانت الأهداف قيمة، ومن هنا ظهر الأسلوب الإداري الجديد وهو: الإدارة بالأفكار، والذي يقوم على تجميع والاحتفاظ بالأفكار التي ترد على ذهن الموظف - خاصة الإداري - ثم دراستها، ووضع المفيد منها موضع التنفيذ، مما يعود بالنفع العام على الشركة أو المنظمة، وبالنفع الخاص على صاحب هذه الأفكار، التي قد تتحول إلى ابتكار أو إبداع أساليب تميز الشركة عن غيرها.
مزايا وفوائد الإدارة بالأفكار
هناك عدد من مزايا وفوائد الإدارة بالأفكار من ذلك:
1- الأفكار الجديدة ترفع من الروح المعنوية لدى الإداريين وغيرهم، فصاحب الفكرة الجديدة التي تلقى قبولًا وتقديرًا من رؤسائه في العمل، يشعر بمدى أهميته وقيمته داخل مؤسسته أو شركته التي يعمل بها، مما يؤدي إلى زيادة اهتمامه بتدوين والاحتفاظ بالأفكار الجديدة والمفيدة التي ترد على ذهنه، ومن ناحية أخرى يزيد التقدير المعنوي والمادي من رؤسائه من ولائه وانتمائه لمؤسسته.
2- الأفكار الجديدة الجيدة تساعد دون شك على إحداث تغيرات في آلية العمل، وبالتالي رفع معدلات الأداء للإداريين - وللموظفين بشكل عام - والذي ينعكس مباشرة على رفع معدلات الإنجاز للأعمال والأهداف داخل الشركة.
3- الأفكار الجديدة تقضي على الروتين الممل في العمل، مما يجعل الإداريين وغيرهم داخل المؤسسة، مستمتعين بعملهم الذي يحمل تجديدًا - ولو كان محدودًا - بشكل متواصل.
4- خلق روح جديدة مع المحيطين بك في العمل، فالعقل الحريص على الاستفادة من الأفكار الجديدة يعي تمامًا أن هذه الأفكار ليست قاصرة على الحياة العملية فقط، بل قد تأتي أفكار جديدة ومفيدة في محيط التعامل الإنساني والاجتماعي مع زملاء العمل مما يخلق بينهم روح الألفة والمودة، وبالتالي التعاون البناء على نجاح ما بينهم من مهام عملية داخل شركتهم.
5- الأفكار الجديدة المفيدة تختصر الكثير من الجهد والوقت في إنجاز الأعمال، مما يوفر الكثير من الأموال التي قد تعود في صورة حوافز مالية على العاملين داخل الشركة.
عود عقلك واستعن بالأدوات المساعدة لتحافظ على الأفكار الجديدة
هناك عدد من العوامل
المساعدة على توليد والاحتفاظ بالأفكار الجديدة: 1- عود عقلك (عودي عقلك) الترتيب: فالعقل المرتب، يساعد صاحبه على الاستفادة من كل ما يحتفظ به، فترتيب المعلومات في العقل، يساعد صاحبه على الاستفادة من فكرة عابرة تتعلق بهذه المعلومات، فالعقل المرتب يستطيع أن يتعامل مع الفكرة العابرة بصورة أفضل بل بصورة لا تقارن مع تعامل العقل الفوضوي مع الفكرة ذاتها.
2- استعن (استعيني) بأدوات مساعدة: من المفيد أن تدون كل الأفكار الخاصة بعملك والتي ترد بذهنك على مفكرة جهاز الكمبيوتر المتوافر على مكتبك، وإن لم يكن متوافرًا فهناك نوتة الجيب، وافحص هذه الأفكار واستبعد غير المهم منها، واحتفظ بالمهم، واعمل على ربط الفكرة المدونة بمعلومات تتعلق بها، كأن تدونها في صفحة مستقلة من نوتة الجيب وتدون معها ما يتعلق بها من معلومات وبيانات قد تفيدك في الاستفادة القصوى من هذه الفكرة.
3- الحرص على ترسيخ مهارة التفكير: فالتفكير يعد من أهم سمات الإنسان. والإنسان بصفة عامة، والإداري بصفة خاصة مطلوب منه اكتساب مهارة التفكير، وتعويد عقله الباطن عليها، فالتفكير هو منبت الأفكار، فالإداري الناجح والمتميز هو صاحب مهارة التفكير والأفكار المتميزة. ولكي يستفيد الإداري من كامل طاقاته الذهنية في مهارة التفكير عليه أن يتخير الأوقات المناسبة في يومه، ولعل أفضل هذه الأوقات هي الساعات الأولى من النهار، فتخصيص هذه الساعات في التفكير يأتي بأفكار غالبها جيد ومفيد.
4- استعن (استعيني) بالمكان والزمان المناسبين: فالمكتب المرتب والنظيف، والجو الهادئ من أهم العوامل المساعدة على التركيز والتفكير بعمق في الفكرة الواردة على الذهن، أو السابق تدوينها.
5- لا تدع (لا تدعي) للمقاطعات والأعمال الطارئة سبيلًا عليك، : فالإداري الناجح هو الذي يتحكم في وقته، ويعرف كيف يدير هذا الوقت، ويعرف أن وقته هو رأسماله في الحياة بصفة عامة، ورأسماله في عمله بصفة خاصة، فيجب عليه استثماره والاستفادة منه بأفضل الطرق والوسائل، ويعلم الإداري الناجح أن الأعمال الملقاة على عاتفه كثيرة ومتنوعة، فإن انشغل مع المقاطعات أو الأعمال الطارئة غير المهمة، فقد الكثير من وقته وتراكمت عليه الأعمال، وقد يتعرض عند التأخر في إنجازها إلى جزاءات أو عقوبات هو في غنى عنها. والمقاطعات تخرج الإداري - وغيره - عن التركيز في عمله، والتركيز من أحد أهم العوامل المساعدة على توارد الأفكار الجديدة على الذهن.
6- صفاء النفس والذهن: من المعلوم أن صفاء النفس يؤدي إلى صفاء الذهن، وصفاء النفس لا يتأتى لعاص، وإنما يتأتى إلى القريب من الله عز وجل، المتوكل عليه حق التوكل، الحريص كل الحرص على الائتمار بالمعروف، والانتهاء عن المنكر، والأفكار المفيدة والصالحة للتنفيذ لابد لها من أرض خصبة، لا تتوافر هذه الأرض إلا في نفس صافية مطمئنة، صادقة، في السر والعلن، ومخلصة في أقوالها وأفعالها، ساعية إلى عمل الخير ونشره بين الناس