| | |
| نطلق في اللغة صفة (المهدور) على ما كان ساقطاً ، فاقد القيمة ، ضائعاً سدى وهي صفة تبدو في كثير من الأحيان معبّرة أبلغ تعبير عن نظرة جزء غير يسير من أفراد مجتمعنا إلى الوقت ، وتعاملهم معه ، وهم ينطلقون في ذلك من ثقافة تفهم الوقت على أنه مجرد تعاقب الليل والنهار ، وتتالي فصول السنة ، واختلاف موضع الشمس من قبة السماء ، وبالتالي فإن (النهايات) ضمن هذا الفهم تكون مفتوحة ، والإطالة مسموحة ، خلافاً لما هو الحال عليه في ثقافة احترام الوقت ، التي ينظر أصحابها إلى الزمن على أنه مُقسَّم إلى ساعات ودقائق وثوانٍ ، وربما أجزاء من الثانية . الوقت المتراخي تشير بعض المراجع في علم الاجتماع إلى أن نمط إنتاج المجتمع ونوعه ، يؤثران في ثقافة تعامل أفراده مع الوقت ، حيث تميل المجتمعات الزراعية والرعوية مثلاً إلى التعامل مع عنصر الزمن على أساس أن الفواصل بين أجزائه طويلة ، ومتراخية ، وليست محددة بدقة ، وذلك بالنظر لاعتياد أفراد هذه المجتمعات على تقسيم حياتهم وأعمالهم على أساس المواسم ، ففي الزراعة موسم للحراثة وآخر للبذار وثالث للحصاد وهكذا ، وفي الرعي موسم للتوالد وآخر لدرِّ الحليب وثالث لجزّ الصوف ، ويفصل بين كل موسم وآخر وقت طويل، وربما لهذا السبب نلمس أن المناسبات في تلك المجتمعات تمتد لأيام ، والزيارات تكون بدون مواعيد مسبقة ، والمواعيد المضروبة للتلاقي تحدد على أساس الصبح والظهر والعصر والمساء ، دون أن تكون قاطعة أو محكومة بساعة محددة ، بينما يختلف الأمر في المجتمع الصناعي الذي يقوم فيه الإنتاج على أساس الوحدة ، وما يستغرقه إنتاجها من وقت ، وعلى أساس العمل اليومي والقياس الكمي . تبدّلت الأحوال ولم تتبدّل الثقافة المهم في الإشارة إلى المسألة المتقدمة ، هو أن نمط إنتاج المجتمع ، وشكل عمل أبنائه قد يتغير ، ويخرج من نطاق الزراعة والرعي ، ويلتحق كثير منهم بالوظيفة العامة والأعمال الخدمية والصناعية ، إلا أن ثقافة التعامل مع الوقت في تلك المجتمعات (التي كانت زراعية ورعوية) تبقى في جزء كبير منها على حالها من حيث جذورها ، وربما تحتاج لفترة طويلة من الزمن لكي تتبدل ، ولهذا نلحظ أن قيمة الوقت في هذه المجتمعات تبقى مهدورة ، حيث يشيع عدم الوفاء بالمواعيد دون إحساس بالذنب ، ولا تُعطى الأعمال نهايات محددة للإنجاز ، وتمارس الإطالة والتمديد وشتى أنواع التراخي في التعامل مع عنصر الزمن كأمر طبيعي وعادي ، وتستباح أوقات الآخرين كأنها لا تحمل أي اعتبار أو وزن . هدر الوقت وهدر حق الآخرين إذا كان الأصل أن كل امرئ حرٌّ في طبيعة فهمه للوقت ، وفيما يضفيه عليه من قيمة، وحرٌّ في كيفية استثماره لوقته أو إهداره ، فإن المأساة تكون حين تنعكس ثقافة الشخص المتعلقة بالوقت على الآخرين . فعندما يُضيع المرء وقت العمل في مؤسسته مثلاً ، أو يُخلف مواعيده ، أو يضطر الآخرين للانتظار أكثر مما يجب ، أو يؤخر أعمالهم التي يترتب عليه إنجازها في لحظة محددة ، أو يهدر وقت معارفه بالزيارات الممتدة أو الهواتف المطولة ، أو بمقاطعة انهماكهم في العمل ، فإنه يكون في كل ذلك متجاوزاً لحريته ، ومعتدياً على حقوق غيره ، بل على حقوق المجتمع كله . احتـرام الوقـت الحقيقة أنه كلما زاد الاهتمام بالإنتاج والجودة والإبداع والتميّز ، وتسامت القيم التي يتمسك بها الفرد والمجتمع ، وتعددت النشاطات الثقافية والتطوعية ، وارتقت الاهتمامات ، وقل البحث عن الصغائر والتوافه ، وكانت ثمة هوايات راقية كالقراءة والبحث عن الجمال ، كلما كان ذلك ، مالت ثقافة التعامل مع الوقت نحو احترامه ، والإحساس بقيمته ، وحسن استثماره ، وكذلك الحال فإنه كلما كانت الأهداف أكثر تحديداً ، والأولويات أشد وضوحاً ، والعزيمة أكبر وأقوى ، زاد إدراك أهمية الوقت ، وتنامى الحرص عليه ، وحلَّ استغلاله مكان إهداره . الوقت أسمى من أن يقدر بثمن وبعد ، فإذا كان الوقت في عالم المال والأعمال والإدارة يُشكّلُ مورداً ، لا يَقوْمُ أي عمل أو انجاز بدونه ، ويمكن بناء على ذلك أن يقدر بثمن فعلي . فإنه (أي الوقت) على المستوى الإنساني أكبر من أن يقدر بثمن ، فهو عنصر من عناصر الوجود ، التي تدور كل حياتنا حول التعامل معها ، بما فيها : الذات والآخر والأفكار والزمان والمكان والأحياء والأشياء ، ويعكس التعامل مع هذه العناصر (بما فيها عنصر الزمن) مدى التقدم أو التخلف، ومدى ارتقاء الثقافة أو انحدارها ، بل يعكس النظرة إلى الوجود كله ، ومدى التكيف السليم أو السقيم معه . مماراق لي | |
| | |