هنا يمنع دخول العاشقين وقُساة القلوب.
(1)
يا قلب.. يا أيّها الأحمر.. أعملت عليك مبضع الجّراح، وحجر الرّحى، وعصا الخبّاز ما انفكت تلقّنك معنى أن تكون رقيقاً مرة أخرى!!
بسطتك كورقة البردي، في محاولة لسلبك خاصيّة الضّخ والارتعاش والحبّ والامتلاء بالهواء.. فردتك كالورق الرّخيص على مكتبي، فلا بُطين ولا أُذين،، وبسواد الرّصاص عليك بدأت أسطّر..
سيّدي.. لا تغفر لي جريمتي معك، أقتص منك إذ اقتصصت مني، ولنا في القصاص حياة.. والبادئ أظلم، طالما تستطيب (ساديتي) التّطبب بذات الدّاء..
(2)
ألف عام.. يا سيّدي كلّما أينعت في الحديقة ياسمينة فرحت..
وكلّما أورقت دالية رقصت..
وكلّما آن قطاف الرّمانات ثَمُلت..
وكنت كعهدي بك كلّما بكى طفل حزنت..
وكلّما تعثرت في خطاها جميلة خشيت سؤال الآخرة..
وكلّما ذَبُلَت زنبقةٌ نُحتَ مع النّائحات..
وإذ يتأخّر عليك حبيبك تشقّ عليه الجّيوب..
وكنت حيثما وأينما كنت.. رقيقاً عفياً ندياً..
(3)
أعرفُ النّاس أنا بك.. ما مللت النّزف مُذْ عَقدت مع ياء المتكلّم قرانك فأصبحت (قلب/ي)..
سيّدي هذه الكتابة على ورقك المعجون رصاصة رحمة لي أو لك.. ولن يصيبنا إلا ما كُتب لنا.. حين لم يبق فيك غير القحط والتّيبس والملح والعطش..
لم تتق الله فيّ، كما اتقيت الله فيك..
لم تشفق علي- يا قلب- وكم أشفقت عليك!؟
(4)
يا سيّدي.. أعلمُ أنّك حين لا تخفق راقصاً تهاجمني ذئاب الحزن..
وتغزو وجهي تضاريس البؤس..
وعلى شفتيّ تصير تعبيرات السّواد وحالك المفردات مبنيّة للمجهول والمعلوم في آن..
حين لا تخفق...
تعذبني كان وأخواتها وقوافل أخرى من بنات عمومتها بأفعال مشينة..
مثلاً: كان يضحك من فرح...
صار يمتهن البكاء وقد عزّ الدمع يا رفيق...
أصبح كجديلة مقصوصة فارقت وجهها القمري/ الهجري،
وأمسى بحلكة ليل بهيم مستديم..
وبات منكفئاً على وجهه حزيناً..
وما برحت قامته كخشبة تابوت..
وما انفك على هذه الحال.
(5)
حين لا تخفق- يا سيّدي- تتعطّل الحواس..
فلا أرى غير الشَرر والحرائق..
ولا أسمع غير نعيق الغربان والبوم التي تملكتني..
ولا أنطق إلا كآبة وبرماً ونزقاً..
ولا أحسّ إلا بصبّار اللحظات تتصدّر موائدي...
وحده طعم الفجيعة الذي يهيمن على ذوقي وتذوقي..
ولا حَدَس.. ولا "سارية" لأقول له الجبل الجبل..
(6)
حين لا تخفق.. تفتّح فيّ "لو" أبواب الشّيطان الرّجيم..
مثلاً: لو دار الزمان إلى الوراء.. فقط لو عاد.. لالتقطت دهشتي وعانقتها في أوّل ردهة وقبضت عليها بأسناني ولهفة جنوني، ولتمنّيت على الأماني المنون..
لو عاد العاشقون يوماً إلى أعشاشهم.. فرادى وأزواجاً.. لادخرت ما يكفي من مئونة لبيت هي سيدته، ولغلّقت بابي دون أن أنسى أن أكتب عليه "هنا صومعة عشق نائمة فلا توقظوها"!!
لو صدّقت أنّ الكرة الأرضيّة صارت قرية لعثرت عليها من أول رشفة في فناجيّ قهوتها.. وما رميت الأرض بمن فيها في سلّة المهملات..
غير أن بلاد الله مفتوحة على الوجع والفجائع.
لو – فقط لو- تكون الآن معي، وألقي بكامل أنوثتها على أريكتي لأصنع من دقات قلبها النّابض طبلاً أوزعه على أفراح المدينة، أو قيثارة أو ناياً.
لو فقط تومض الآن كالبرق أمامي فاستبين أنّ الأرض سيمفونية، والمدى لوحة..
وأنّ عيونها قصيدة تقتل قارئها..
وحضورها سلافة (أندرين) معتقة.
(7)
سيّدي.. لو مرّة واحدة كان طولك على طولي ..
لو مرّة كنت واقعياً لغفرت لك..
ألف عاشق داويتهم.. بعضهم اقلع عن الحبّ... وبعضهم مات هياماً، وجميعهم علّقوا كلماتي كالتّمائم على الصّدور...
مليون امرأة مرّت في الجّوار بسهولة الماء برداً وسلاماً، ولا نار ولا أشعار ولا احتضار..
لم انتبه إليك تدندن مع صوت فيروز النّازف (منن.. سرقتك.. ولأنك إلن رجعتك)..
وليتك فعلت!!
(8)
سيّدي أعرف أنّ القلوب تدقّ، وأنت على غير مألوف كلّ القلوب ما عهدتك إلا نازفاً دماً وملحاً وحنينا..
ألف عام - يا سيّدي- وأنت تتمنع أيّها العصيّ على الجميلات، فماذا غيّرك؟
ألف عام وأنت مغمور تسير في ظلّ الجدار، ما الذي فجّرك؟
ألف عام وأنت تسترخي مستكيناً في قفصك الصّدري، من مرّدك؟
ألف عام لم تعنون لقلبك قمراً.. بدراً.. ملاكاً .. غزالة.. مهراً.. - ما شئت- لتتبعه، فأيّ جنّي تلبّسك؟
(9)
يا سيّدي..
آه من جوعك النّدي للعشق.. كلما اشتعل بك الهيام.. شددت على جوعك الحزام!!
آه من شبقك النبيل لقطاف التّوت البريّ، وقراءة متمهلة على تضاريس الجّسد.
آه من الفولاذ حين ينهار!! (علمتني الحياة أنّ سقوط العمالقة مختلف عن سقوط الأقزام!!).
آه منك حين جاءك مَن مِن قمقمك يخرجك!!
ومن برعشة خفيّة أو نظرة وامضة – لست أدري- يقتلك.
(مت واثقاً صلباً-يا سيدي- ينقطع خفقك إلا من قلب، إن لم يكن قد مات بك، فيقيناً إنه يدعو لك)
(10)
يا سيّدي .. كم استوصيت بك - قبل اليوم/ قبل النوم- خيراً وشفقة من سهاد، وحنين طويل، وبوح لا تحمد عقباه..
كم ملأتك هواءً ونسيماً وروائح عطرٍ وصهيل بناتٍ شقرٍ..
وأنا أحملك معي إلى مطارات المعمورة في الأقاصي البعيدة..
وكنتَ أبدا لا تغادر فنجان قهوتك!! ولا تخلع أيّها المجبول بالوفاء والحنين جلدك!!
(11)
أعلمُ يا صاح.. أنّك حين تضخ فيك الشّرايين تكتسب العظام لحماً وفرحاً وتوقاً للحياة..
وأعلمُ أنّك حين تراود نفسك الثكلى عن الإقلاع عن الحبّ...أنطق بالشهادتين واستسلم لملك الموت..
وأعلمُ وأعلمُ..
ابسط يدك اليمنى لأشهدك..
إنّي عذّبتك..
وإنّ فجيعتي بك ألف مرة أهون من فجيعتي بغيابها
هات أصابعك لأعدّ عليها لك.. وأسرد قصتها عليك:
بصمة الإبهام قالت أن ألف مهرٍ مرّت من هنا.. ولم أجد مهراً بكلّ هذا الجّموح...
وعلى السّبابة طوت كواعب الأرض بقية أصابعك لتشهد أن لا اله إلا الله.. وأن لا أميرة سواها..وسبحان من سوّاها..
وعلى الوسطى.. أعدت ترتيب النّجوم ميمنة، وميسرة، وجعلتها في واسطة العقد..وهنيئاً بها لك.
وعلى الخنصر والبنصر بحرٌ يُسمى بحر العشق .. قضى (الخليل) باحثاً عن مفتاحه أو لؤلؤه.
(12)
هي امرأة توارت ملكات الكون خلف قامتها.. وعملن وصيفات للبلاط.. فبدا الكون بستان ياسمين وزنبق.
هي امرأة من شوق ونقاء وأنوثة ساحرة.. فاقتلني – دون أن ترى في المنام أنك ذابحي- باسمها كما.. ووقتما.. وكيفما تشاء، وافعل ما تؤمر، ووزع على قلوب العاشقين ِمزَقاً منّي..
كي تشرق الشّمس ويهطل المطر، وتخضر الحقول، وتتوالى الفصول.
من بحور تجوالي