إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ :
إذا حدثت القيامة، والواقعة اسم من أسماء القيامة، كالصّاخّة والآزفة والطّامّة.
وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها، ليس لوقوعها صارف ولا دافع، ولا بد من أن تكون، وليس لها تكذيب ولا رد. وكلمة كاذِبَةٌ إما مصدر كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين، أي ليس لها تكذيب ولا ردّ، وهذا قول قتادة والحسن، وإما أن تكون صفة لمقدّر، كأنه تعالى قال: ليس لوقعتها حال كاذبة.
- وهي خافضة أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، فتجعلهم في الجحيم، وهم الكفرة والفسقة، ورافعة أقواما كانوا في الدنيا مغمورين، فتجعلهم في الجنة، وهم المؤمنون.
- إذا زلزلت وحرّكت الأرض بعنف تحريكا شديدا، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال.
- وفتّتت الجبال فتّا، وصارت غبارا متفرّقا منتشرا أو شائعا في الهواء، كالهباء الذي يطير في النار. وهذا يدلّ على دكّ الجبال وزوالها عن أماكنها يوم القيامة.
- وأصبحتم يوم القيامة من قسمين إلى ثلاثة أصناف: أهل اليمين أصحاب الجنة، وأهل الشمال أهل النار، والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنة والرحمة، وهم الأنبياء والرّسل والصّديقون والشهداء.
فأصحاب اليمين: هم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذون إلى الجنة، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم! وقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم.
.وأصحاب الشمال: هم الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!! والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد وأعمال البر، وهم: الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، والشهداء والصّديقون، والقضاة العدول، ونحوهم، إنهم السابقون إلى الجنة والرحمة، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته والمقرّبون من الله تعالى في جنّة عدن، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم.
وقوله: أُولئِكَ تدلّ على علو مكانتهم.
وهذه الآية تتضمن أن العالم يوم القيامة ثلاثة أصناف: مؤمنون هم على يمين العرش، وهنالك الجنة، وكافرون وهم على شمال العرش، وهنالك النار. والسابقون إلى الإيمان والطاعة وهم عند الله تعالى في جنة عدن، أو في الفردوس أعلى الجنان وهي أعلى منازل البشر في الآخرة. ذكر الله تعالى أصحاب الميمنة متعجبا منهم في سعادتهم، وأصحاب المشأمة متعجبا منهم في شقاوتهم، ثم ذكر السابقين مثبتا حالهم، فأخبر أنهم نهاية في العظمة والسعادة.
والسابقون: هم الذين سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي.
نعيم السابقين المقرّبين
السابقون السابقون: هم الذين سبقوا في الدنيا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي، وهم المقرّبون عند الله في أعلى منازل البشر في الآخرة، وهؤلاء الصفوة المتميزة العليا من أهل الجنة، ومن مختلف الأمم إلى يوم القيامة، يتمتعون بأكمل أنواع النعيم المادي والمعنوي في الآخرة، وقد ذكر الله تعالى ألوان نعيمهم
هؤلاء المقرّبين: هم في الجنة متكئون على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب، مشبكة بالدّر والياقوت والزّبرجد، في حال التقابل، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وهم في حبور وسرور، وصفاء واطمئنان.
- يدور عليهم للخدمة غلمان باقون على صفة واحدة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يبعد أن يكونوا كالحور العين مخلوقين في الجنة، للقيام بهذه الخدمة.
- يطوفون على أهل الجنة السابقين بأكواب لا عرى لها ولا خراطيم، وبأباريق لها العرى والخراطيم، وبكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا، فهي صافية نقية من الكحول المسكر، لا تتصدّع رؤوسهم من شربها، ولا يسكرون منها، فتذهب عقولهم.
- ومعهم ما يختارونه من ثمار الفاكهة، وأنواع لحوم الطيور التي يشتهونها، مما لذّ وطاب، ومن المعلوم أن لحوم الطيور أيسر هضما وأعذب طعما.
- ولهم نساء حوريات بيض، مع شدة سواد العين، وشدة بياضها، واسعات الأعين حسانها، كأنواع اللآلى والدّرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة، وبياضا ومتعة، وجمالا من أحسن الألوان، يفعل بهم ذلك كله، مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
- وفي الجنة لا يسمعون كلاما لاغيا لا معنى له، واللغو: الفاحش من القول، ولا كلاما فيه ما يوقع في الإثم من سبّ أو شتم أو ساقط الكلام. ولكن يسمعون أطيب الكلام، ويتبادلون فيما بينهم التحية وأكرم السّلام
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ دليل على أن هذه الرّتب والنّعم هي بحسب أعمالهم، لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة هي مقسّمة على قدر الأعمال. وأما دخول الجنة نفسه: فهو برحمة الله تبارك وتعالى وفضله، لا بعمل عامل
جزاء أصحاب اليمين
ذكر الله تعالى ألوان النعيم للسابقين المقرّبين عند الله يوم القيامة، ثم أتبعه ببيان أصناف النعيم لأصحاب اليمين، من الفاكهة الكثيرة، والظلال، والمياه، والأنهار الجارية، والفرش المرفوعة، والحور العين العذارى في عمر واحد أو متساويات السّن: أتراب، ومحبّبات إلى أزواجهن، وهذا أنموذج إغرائي لمن اهتم بالماديات، قياسا على أحوال الدنيا التي قد تفتقد فيها هذه الأشياء لكثير من الناس، فيجدون الحلم والعوض محقّقا في الآخرة فإن منزلتهم دون المقرّبين، ولكن في درجة عالية في الجنة، فهم أصحاب الميمنة، وما أدراك ما هم، وأي شيء هم، وما حالهم ومآلهم؟! وهذا يشير إلى التفخيم والانتباه للتعرّف على حالهم، فجاء البيان المفصل لما أبهم من حالهم، فقال الله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) أي يتمتعون في جنات فيها شجر يشبه شجر السّدر: وهو من العضاة له شوك، وأما سدر الجنة فهو على خلقة سدر الدنيا، له ثمر كقلال هجر، طيب الطعم والريح، ووصفه تعالى بأنه مخضود، أي مقطوع الشوك الذي لا أذى فيه.
ولهم أيضا مثل الطّلح: وهو كذلك من العضاء شجر عظيم كثير الشّوك، ولكن طلح الجنة على صفات كثيرة مباينة لحال الدنيا، ومنضود معناه: مركب ثمره، بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه.
الفاكهة الكثيرة ما شاؤوا، فهي لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات، كما تنقطع فواكه الدنيا أحيانا، ولا تمنع عمن أرادها في أي وقت، على أي صفة، أعدت لمن أرادها.
ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة، وذات رفعة
وأصحاب اليمين: هم سالف الأمم، جماعة عظيمة من الأولين، وهم مؤمنو الأمم الماضية، وجماعة من الآخرين، وهم مؤمنو هذه الأمة، أتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة
وجزاء أصحاب الشمال وما أدراك ما هم؟ وأي شيء هم فيه، وأي صفة لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟ وهذا فيه معنى اللوم وتعظيم المصاب. هم في ريح يابسة، لا بلل معها، شديدة الحرارة، ويشربون الماء المغلي، ويتظلّلون بدخان جهنم الشديد السواد، ليس باردا كالظلال الباردة عادة، ولا حسن المنظر ولا نافعا، وكل ما ليس فيه خير، فهو ليس بكريم، أي ليس للظلال صفة مدح، فهو سيّئ الصفة، وهم فيه مهانون.سيأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر والطعم، حتى يملؤوا بطونهم، لشدة الجوع. ثم إنهم سوف يشربون على الزّقوم عقب أكله، من الماء الحار، لشدة العطش، ويكون شرابهم منه كشرب الإبل العطاش، التي لا تروى لداء يصيبها، حتى تموت هو- على سبيل السخرية والاستهزاء- ضيافتهم عند ربّهم يوم حسابهم، وهو الذي يعدّ لهم ويأكلونه يوم القيامة ساعة قدومهم.