أحيآآآء .... بلا روح !!!
إن الأشجار تموت واقفة .. ذلك أنها تموت ببطء،
تنسحب من الحياة تدريجياً، ننظر لها شامخة
وفي ظننا أنه شموخ القوة والعنفوان،
بيد أن الواقع يفاجنا بعد مدة أن ما نُعجب به ليس سوى شموخ مصطنع،
وبأن ما نراه ليس أكثر من جثة ثابتة الجذور .
والحياة تنبئنا أيضاً أن بها موتى كثر لكنهم يمضون بيننا،
يصنعون زحاماً وضجيجاً وفوضى،
يحسبهم الناظر أحياء بيد أنهم ليسوا كذلك!.
ميت كل من ثبت على رأيه بعدما تبين له خطأ ما يعتقد،
ومضى في غيه وكبره،
مستكبر عن العودة إلى جادة الطريق الصحيح ..
ميت كل من توهم الكمال في نفسه،
والعبقرية في عقلة، والنبوغ في ذاته،
ومضى وقد ارتدى زي القضاة يحكم على هذا وذاك،
يلقي من يشاء خلف قضبان الجهل والغباء،
ويصطفى من يحب ليضعه في سماء المعرفة والعظمة .
ميت ولو كان شامخاً من لا تؤثر فيه حوادث الأيام،
ودوران الدهر، وظن أن ما عنده هو منتهى الحكمة وغاية المقصد .
ما من عظيم إلا وراجع نفسه، وأعاد ترتيب أوراقه،
وغربل أفكاره، ودقق النظر في معتقداته وما يؤمن به ..
فعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
فكان وضعه بعدما صار خليفة أكثر هدوء وحكمة ورقة
عن شدته قبل ذلك، وارتفع مستوى الرأفة واللين عن مستوى القوة والحزم،
أبدل عبارات من نوعية "
دعني أقطع عنقه يا رسول الله"
بعبارات أخرى من نوع " لو عثرت دابة في العراق
لسئلت لما لم تمهد لها الطريق يا عمر"
زادت عبراته ودموعه، وقلت تهديداته ووعيده .
فعلها الإمام الشافعي عندما جاء إلى مصر، فغير كثيراً من فقهه وفتاويه..
فألف كتابه الفقهي " الأم" مجدداً فيه ما كتبه في كتابه "الرسالة"
.فعلها المفكر الكبير خالد محمد خالد، فتراجع عن أفكاره التي كتبها في كتابه " من هنا نعلم"
وفندها بعد ثلاثين عاماً في كتابه " الدولة في الإسلام" .
فعلها توفيق الحكيم فكتب " عودة الوعي"
يلوم فيه عاطفة جرفته فأربكت رمانة وعيه فاعوج ميزان العقل لديه .
فعلها العظماء جميعاً ..
فنيلسون مانديلا في شبابه غير مانديلا في كهولته،
الأول يرى بأن بلاده ملك للسود فقط والثاني يراها ملك لكل مواطن،
الأبيض كالأسود يجمعهم رداء الوطنية،
وتصهرهم هموم البلاد ..
فقط الموتى هم الذين لا يتغيرون، ينامون على جنب واحد، يرون في اتجاه واحد، يتحدثون بلسان واحد ..
وللأسف هم كثر ..كم من فقيه اعتذر عن فتوى تبين له خطؤها ..
كم من سياسي تراجع عن موقف رأى أنه لم يوفق في اتخاذه ..
كم من مفكر أو صاحب رأي قام بمراجعة لما كتب وأعاد تصحيح رؤاه وأفكاره ..!؟
إنهم قليلون ..
وهذا حال الحق وأتباعه دائما ..
لكنهم مع قلتهم يستطيعون إنارة الحياة لغيرهم، فهم الأحياء ولو غابوا عن المشهد .. وغيرهم أموات ولو طاولوا السماء، تماماً كالشجرة التي نخرها السوس من الداخل وهي للناظرين ..
شامخة .فأعمالنا و انجازاتنا في هذه الحياة هي تاريخنا الذي نفخر به و تفخر به الأجيال من بعدنا ...
" و أن ليس للانسان الا ما سعى و أنّ سعيه سوف يرى" ....
صدق الله العظيم
مما راق لي