’’ رُوحٌ و آلافٌ من مثيلاتِها قدْ جُنِّدَتْ علَى الأرْضِ، حُمِّلتْ أمانةَ وَ ينتظِرُها سفرٌ طويلٌ على أعتابِ السماءِ .. ’’ كَانَ هذا عهْدها الأزَلِيْ، رحْلتُها التي من أجلها قدْ خُلِقتْ ...
فما بالُ أرْواح اليوْمِ لا تُصْغِي؟ أذْكُرُ أنَّ الروحَ إذا أبْصَرتْ النُور لأوَّل مرَّة تلّونتْ أركانُها بألوانِ الفرَح و طُبعتْ بوَهَجٍ من جمالٍ تفجَّرت منهُ إشراقةُ حياة .. كانتْ تتدفَّقُ من محياهَا براءةٌ و يلُوح من نيتِها الصفاءُ = لكنْ لمْ تلبثْ أن اضمحَّلت هذِه الرُّوحُ فتلاشتْ أوراقُها و ذبُلتْ أجزاؤُها حتَّى لمْ يبْقَ منها غيرُ اسمِها ! فراحتْ تتجولُ بين أزقَّة الدنيا و دهالِيزِها المقْفِرَة غيْرَ آبِهَةٍ بوعدٍ كانت قد قطعتْهُ على نفْسِها ..
أفلتْ شمسُها المعهُودة وَ أبَى الفجرُ بزُوغًا و كتِبَ عليْها شقاءٌ و ضَنَى ...تراها
حيَّة لكنها أَشبهُ ما يكُون بالأمواتِ ! ألهَذا خُلِقْتْ ؟ ! قَال تعالَى : {أوَمَنْ كان مَيْتًا فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلنَا لهُ نُورًا يَمْشِي بهِ فِي النَّاس كمَنْ مَثلهُ فِي الظُّلمَاتِ ليْسَ بخَارج مِنْهَا}، [الأنعام: ١٢٢]
هَذهِ الآيةُ معينٌ صافٍ جادَ بهِ الإلهُ ليُعِيد للأرواحِ المُظلِمَةْ بريقَها وَ يرْسُمَ لها درْبًا نُورانيا إذَآ سارتْ عليهِ أبدآ لن يطالهَآ تعبٌ و لا كمدٌ ..
فالحيَاةُ هنا قدْ قُرِنتْ بالنُورِ و لا نُورَ لنا بعدَ أنوارِ ديننا الحنِيفِ فهُو وحدهُ قادرٌ على أنْ يدلنَا على خالقنَا و يفقهنا بِأصُولِ العيشِ الحمِيدِ و يأخُذَ بأيدينا إلَى جناتِ النعِيمِ...
و لوْ تجوَّلنا في ظلالِ آيِ الرحمنِ لوجدْنا أنهُ سبحانهُ يذُمّ من يدنُو بحرصِه من الحياة فيقُول تعالى : {و لتجدَّنَّهمُ أحرَصَ النَّاسِ علَى حياةٍ }
[ البقرة :٩٦] وَ قدْ سيقتْ كلمةُ {حياةٍ} نكِرَةً فِي هذه الآيَة تصغيرًا و تحقِيرًا.
فالأرواحُ البعيدةٌ بأفعالها و أقوالها عن دِين الله تحيَى مُتْعة جافَّةً عاريَةً عنِ الهناءِ و السعادَة .. تأكلُ كما نأكلُ و تُلبِي من حاجاتِها الكُثيرَ و لو كانتْ تعارضُ ما شرع الله ، لكنَّها لا ترْقَى عنْ مُشابهةِ الأنعامِ بعيشها الدنِيء هذا ! أمَّا الأرواحُ المُتَّصِلةُ باللهِ فهِي فِي لذّةٍ أزليةٍ، لأنَّها أيْقنتْ بأن العبادَةَ دأبها
فأكلٌها و شُرْبُها و منامٌها و يقظتُها و سعيُها كلهُ للهِ، هؤُلاءِ همْ من عمِدُوا إلَى سرِّ الحياة الطيبَة فنبتَ فِي قُلُوبهم و تأصَّل فحقَّ لغراسهمْ أن تخضرَّ و لثمارِهم أن يتمَّ نُضجُها لترافِق أيامَهُم البهجةُ و يضعَ السعدُ رحلهُ بكُفُوفهمْ... فقال سُبْحانهُ : { منْ عملَ صالحًا منْ ذكَرٍ أوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤمنٌ فلَنُحيِينَّهُ حياةً طَيبَةً و لنجْزينَّهُم أجْرَهُمْ بأحسَن ما كانُوا يعْملُونْ } [النحل: ٩٧] .. أمَا آنَ أنْ نلحقَ بالركبِ المُهاجِرِ، أما آنَ أن نقتفِي آثارَ القافِلةِ الصالحَة ؟ أما آنَ أنْ نَصِيرَ: أرْواحًا ترنُو إلى السماءْ !*
فتلكَ أرْواحٌ عرفتْ خالقَها فأحبَّتهُ، وَ علمتْ ما يحب فتعاهدتهُ، و أحصتْ ما يكرهُ فنبذتهُ،
أرْواحٌ لمْ يعدِ أديمُ الأرضُ يسعُها لفرطِ همَّتها المحلِّقَة نحْو الجنانِ،
هِي أرْواحٌ تعيشُ بيننا و لرُبما صحبنَاهَا مُجسَّدَةً فِي صدِيقٍ أو أمِّ أو أبٍ أو أُستاذٍ أوْ طالبٍ ...
فهلَّا استفقْنا وَ ربطنا قُلُوبنا بربِّ السماء !
تالله لَمْ يبْقَ علَى الرحِيلِ إلَّا القليلِ و هل يا تُرَى يسدُّ رمقنا زادٌ ضَئيلٌ ؟
يسْألُنِي سائلٌ بكلِّ لهْفَة .. نعمْ آنَ لِي أن أرنُو، فكَيْفَ السبيلُ إلَى ذلكَ
|