..
صاحب المال الرابح
أبو طلحة الأنصاري
إنه أبو طلحة زيد بن سهل الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه-، أحد النقباء الاثني عشر الذين حضروا بيعة العقبة
عَرف زيدُ بن سهلٍ النجَّاريُّ المُكنى بأبي طلحة، أنَّ الرميصاءَ بنتَ مِلحان النجاريَّة المُكناة بأم سليمٍ قد غدتْ أيماً ( أصبحت بلا زوج ) بعد أن توفيَ زوجها؛ فاستطار فرحاً ( كاد يطير من شدة الفرح ) لهذا الخبر.فعزم على أن يُبادرَ إلى خطبتها قبل أن يسبقه إليها أحدٌ ممن يَطمحون إلى أمثالها من النساء.وكان أبو طلحة على ثقةٍ من أن أمَّ سليمٍ لن تُؤثر ( لن تفضل ) عليه أحدا من طالبيها...
مضى أبو طلحة إلى بيت أم سليم...وفيما هو في بعض طريقه تذكر أن أم سليمٍ قد سمعت من كلام هذا الداعية المكي مصعب بن عُمير، فآمنت بمحمد واتبعت دينه.
بلغ أبو طلحة منزل أم سليمٍ، واستأذن عليها، فأذنت له، وكان ابنها أنسٌ حاضرا، فعرض نفسه عليها....فقالت: إن مثلك يا أبا طلحة لا يرد، لكني لن أتزوجك فأنت رجلٌ كافر...
فظن أبو طلحة أن أم سليم تتعلل ( تتصنع له العلل والحجج ) عليه بذلك، وأنها قد آثرت عليه رجلاً آخر أكثر منه مالاً وأعز ( أعز قبيلة ) نفراً.
فقال لها: والله ما هذا الذي يمنعك مني يا أمّ سليم.
قالت: وما الذي يمنعني إذن ؟!
قال: الأصفر والأبيض... الذهب والفضة...
قالت: الذهب والفضة؟!
قال: نعم.
قالت: بل إني أشهدك يا أبا طلحة وأشهد الله ورسوله أنك إن أسلمت رضيت بك زوجاً من غير ذهب ولا فضة، وجعلت إسلامك مهراً...
فما إن سمع أبو طلحة كلام أم سليم حتى انصرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه ( صنعه ) من نفيس الخشب، وخصَّ به نفسه كما كان يفعل السادة من قومه.
لكن أم سليم أرادت أن تطرق الحديد وهو ما زال حامياً ( أرادت ألا تضيع الفرصة ) فأتبعت تقول: ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض؟!
فقال: بلى.
قالت: أفلا تشعر بالخجل وأنت تعبد جذع شجرةٍ جعلت بعضه لك إلهاً بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقوداً يصطلي ( يستدفئ بناره ) بناره أو يخبز عليه عجينه...
إنك إن أسلمت ( يا أبا طلحة ) رضيت بك زوجاً ولا أريد منك صداقاً ( مهراً ) غير الإسلام.
قال: ومن لي بالإسلام؟
قالت: أنا لك به.
قال: وكيف؟
قالت: تنطق بكلمة الحق فتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم تمضي إلى بيتك فتحطم صنمك ثم ترمي به.
فانطلقت أسارير أبي طلحة ( ظهر البشر والسرور على وجهه ) وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ثم تزوج من أم سليمٍ.....
* * *
وشاء الله ان يرزق أبو طلحة بولد من أم سليم، وشاء الله ان يمتحنهما بهذا الولد، فمرض الولد مرضا شديدا ومات بين يدي امه وابو طلحة غائب، فلما عاد استقبلته زوجته أم سليم احسن استقبال، وقربت اليه عشاءه فأكل وشرب ثم اصاب منها ما يصيب الزوج من زوجته. ثم قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو ان قوما اعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم ان يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت ثم اخبرتني بابني، فانطلق وشكاها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما). فحملت ثم ولدت غلاما فأرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه ودعا له وسماه عبد الله. ثم رزقهما الله بتسعة من الأولاد كلهم قد حفظوا القرآن.
أحَبَّ أبو طلحة رسولَ الله صلوات الله عليه حباً خالط شِغافَ قلبه وجرَى مَجرى الدّم من عروقه، فكان لا يشبعُ من النظرِ إليه، ولا يَرتوي من الاستماعِ إلى عذب حديثه.
فلما كان يومُ أحدٍ انكشفَ المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَنفذ إليه المشركون من كلِّ جانب، فكسروا رباعيّته ( سنه التي بين الثنيِّة والناب ) وشجُّوا جبينه، وجرحوا شفته، وأسالوا الدّم على وجهه....عند ذلك لم يَثبتْ مع رسول الله غيرُ نفرٍ قليلٍ في طليعتهم أبو طلحة.
انتصبَ أبو طلحة أمامَ رسول الله صلوات الله عليه كالطود الراسخِ ثم وَترَ أبو طلحة قوسَه ( شد قوسه ) التي لا تفلُّ ( لا تهزم )، وركبَ عليها سهامَه التي لا تخطئ، وجعل يذود بها ( يدافع بها ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويرمي جنودَ المشرِكين واحداً إثر واحدٍ.
ومازالَ أبو طلحة يُنافح ( يدافع ) عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى كَسرَ ثلاث أقواسٍ، وقتل ما شاء الله أن يَقتلَ من جنود المشركين.
وكان أبو طلحة أكثر الأنصار مالاً، وكان أحب أمواله إليه (بيرحاء) وهى أرض بها نخيل، وكانت أمام المسجد، فكان النبي ( يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]، ذهب إلى النبي ( وقال له: إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال (: (بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه [متفق عليه].
وكان أبو طلحة كثير الصيام، وكان حريصًا على الجهاد رغم كبر سنه؛ لقوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالا}، فكان يقول لأبنائه: لا أرى ربنا إلا يستنفرنا شبابا وشيوخًا، يا بني جهزوني، فإني خارج معكم إلى الغزو، فيقول أبناؤه: يرحمك الله يا أبانا، قد غزوت مع الرسول ( حتى مات، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر حتى مات، فدعنا نغزو عنك، ولكنه صمم على رأيه، ولبس ثياب الحرب، وخرج معهم، ومات أثناء غزوة في البحر، ولم يجد الصحابة جزيرة قريبة ليدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم تتغير رائحة جسده.
[ابن سعد]. وكان موته -رضي الله عنه- سنة (20 هـ).
..