أما بعد:
أيها المؤمنون: إن مما يتميز به ديننا الإسلامي الحنيف أنه دين الأخلاق الحسنة، والصفات الجميلة، والمعاملات الرائعة، دين تميز بالطهارة الحسية والمعنوية، دين يحث على التخلق بالأخلاق الحميدة، ويحذر من الأخلاق الرديئة والمشينة.
ومن هذه الأخلاق الحميدة التي يحث عليها الإسلام؛ خلق العفة، ذلك الخلق الإيماني الرفيع؛ نعم -أيها المؤمنون- العفة صبر وجهاد واحتساب، العفة قوة وتحمل وإرادة، العفة صون للأسرة المسلمة من الأهواء والانحرافات والشذوذ، العفة دعوة إلى البعد عن سفاسف الأمور وخدش المروءة والحياء، العفة لذة وانتصار على النفس والشهوات وتقوية لها على التمسك بالأفعال الجميلة والآداب النفسانية، العفة إقامة العفاف والنزاهة والطهارة في النفوس، وغرس الفضائل والمحاسن في المجتمعات، حقا .. إنها عفة الإسلام، التي تضبط سلوكيات الآدميين عن الانحراف إلى مهاوي الرذيلة والانحطاط، وتحفظ إراداتهم وشهواتهم عن الانخراط في الزلل وعدم الانضباط .
أخي المسلم/ أختي المسلمة: لقد حرص الإسلام على أن ينأى بالناس عن الشهوات الحيوانية، والأخلاق الشيطانية، والنفس بطبيعتها كثيرة التقلب والتلون، تؤثر فيها المؤثرات، وتعصف بها الأهواء والأدواء، فالنفس أمارة بالسوء، تسير بصاحبها إلى الشر، فإن لم تُستوقف عند حدها، وتلجم بلجام التقوى والخوف من الله، وتأطر على الحق أطرا، وإلا فإنها داعية لكل شر وهوى ومعصية، والنفس بطبيعتها إذا أُطعمت طعمت، وإذا فوضتَ إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت إليها الأمر فسدت، والعفة تأتي لتهذيب النفس وتزكيتها من أهوائها وشهواتها، لتتجلى فيها مظاهر الكرامة الإنسانية، وتبدو فيها الطهارة والنزاهة الإيمانية، نعم.. إن العفة هي طلب العفاف والكف عن المحرم الذي حرمه الله –جل وعلا- والاكتفاء بما أحلّ -سبحانه وتعالى- وإن كان قليلاً.
أيها الناس: لقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بالحث على التخلق بهذه الصفة الجميلة؛ فمن ذلك ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طُعمة) رواه أحمد .
وكان -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه العفاف؛ كما في الحديث أن كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) رواه مسلم.
كما نبه صلى الله عليه وسلم إلى أن الجزاء من جنس العمل، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : ((بروا آباكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم)) رواه الطبراني بإسناد حسن .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من يتخلق بهذه الصفة فإن الله يعينه، كما جاء في الحديث : ((ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف )) رواه الترمذي .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن العفيف عما حرم الله من أوائل الناس دخولا الجنة؛ كما جاء في الحديث أن قال: ((عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لموالية)) رواه الترمذي.
أيها الناس: الحديث عن العفة يطول؛ لأن العفة لها تقسيمات وتفريعات كثيرة؛ ولكن حديثنا هو عن العفة عن ما حرم الله، العفة عن الفواحش، وذلك بحفظ الفرج عما حرم الله..
أيها الناس: للعفة عما حرم الله فوائد وثمرات عاجلة وآجلة، ثمرات يجنيها المرء في الدنيا، وثمرات يجنيها في الآخرة، ومن هذه الثمرات ما يلي:
أولا: امتثال أمر الله، فقد أمر –سبحانه- المؤمنين والمؤمنات، بذلك: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، هذا أمر للمؤمنين، وفي المقابل أمر المؤمنات، فقال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}1.
يقول العلامة الشنقيطي: "أمر الله -جل وعلا- المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج: حفظه من الزنى، واللواط، والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالى في سورة "المؤمنون" و "سأل سائل": {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}2. فقد بينت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى، واللواط لازم، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك... وقد وعد الله –تعالى- من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة "الأحزاب"، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}3.
فعلى المسلم أن يحفظ فرجه عما رحمه الله، فذلك من حق الحياء الذي يجب عليه لله؛ كما جاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا يا نبي الله إنا لنستحيي والحمد لله، قال ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))4.
يقول العلامة ابن رجب -رحمه الله-: "وحفظ الرأس وما وعى) يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات (وحفظ البطن وما حوى) يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله، قال الله -عز وجل-: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}5. وقد جمع الله ذلك كله في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}6. ويتضمن أيضا حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب، ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج".. وقال أبو إدريس الخولاني: "أول ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض حفظ فرجه، وقال لا تضعه إلا في حلال"7.
ومن ثمرات العفة: ثناء الله -تعالى- على أهل العفة الذين حفظوا فروجهم إلا عما أحل الله لهم، من زوجة أو أمة..
أيها الناس: الإنسان يفرح بثناء الناس عليه ومدحهم له، ويعتزون بذلك، فمثلا الطالب يفرح بثاء معلمه عليه أمام زملائه، والطالبة تسعد بثناء معلمتها، وحين يكون الثناء والتزكية ممن له شهرة بين الناس تعلو قيمة الثناء، فكيف إذا كان الثناء من خالق البشر جميعا، وخالق السماوات والأرض بمن فيهن؛ يقول الله -عز وجل- في مدح المؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
إنه ثناء لا يعدله ثناء، شهادة من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء بالإيمان، وإخبار عن فلاح هؤلاء الذين من صفاتهم: حفظ الفرج والتجافي عن الفواحش!.
وقد علق العلامة ابن القيم آيات المؤمنون: بقوله: "وهذا يتضمن ثلاثة أمور: من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، ومن العادين، ففاته الفلاح، واستحق اسم العدوان، ووقع في اللوم"8.
رابعا: الفوز بالجنة، والنعيم المقيم في الآخرة، كما قال تعالى بعد أن عدد الله صفات المؤمنين، وأن من صفاتهم: حفظ الفرج عما حرم الله، قال في ختام الآيات: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقال في سورة المعارج: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ}9، فأهل العفة أهل لكرم الله، والفوز بمغفرته، ونيل رضوانه وجنته؛ كما قال تعالى مثنيا عليهم : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
بل لقد ضمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن حفظ جوارحه عما حرم الله الجنة؛ كما جاء في الحديث أنه قال: ((من يضمن لي مابين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))10. فحقق الشرط، وهو حفظ الجوارج عما حرم الله؛ تفوز بالمشروط، وهو جنة الله -تبارك وتعالى-، وذلك أعلى وأغلى مطلب يسعى الإنسان لتحصيله؛ إنها الجنة –جعلنا الله من ورثتها- التي كل عامل في هذه الدنيا يعمل من أجلها، فالعالم الذي يقضي وقته في العلم والتعليم، والعابد الذي ينصب في عبادة ربه، والمجاهد الذي يرخص نفسه في سبيل الله، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والداعية الذي يواصل سهر الليل بكدّ النهار ويقيمه همّ الدعوة ويقعده، هؤلاء جميعا ذلك للحصول على هدف واحد، ومطلب وحيد، وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار.
من ثمرات العفة: الاستظلال تحت ظل العرش يوم القيامة، في ذلك اليوم الرهيب، حيث تقترب الشمس من الناس على قدر ميل، ويلجمهم العرق إلجاماً، ويبلغ بهم الأمر مبلغه، في ذلك اليوم الذي ليس كأيامنا، وإنما مدته خمسين ألف سنة؛ والناس جميعا تلفحهم حرارة الشمس، وهؤلاء الأصناف مستظلين تحت ظل العرش، كما أخبرنا بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وذكر منهم: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين))11..
وهذا ليس محصورا في حق الرجال فحسب، بل يعم ذلك النساء أيضا، فأيما امرأة روادها رجل على الزنى فأبت وامتنعت عن ذلك؛ خوفا من الله، فإنها تدخل ضمن هؤلاء السبعة الذين يستظلون تحت ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.
ومن ثمرات العفة: أنها سبب لتفريج الكربات، واستجابة الدعوات، كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عمر -رضي الله عنهم- عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما ثلاثة يمشون إذ أخذتهم السماء فأووا إلى غار في الجبل، فانحطت عليهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا صالحة عملتموها فادعوا الله بها)) فدعا أحدهم بقوله: (اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبدالله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا من هذه الصخرة، ففرج الله لهم فرجة)).
فتأمل أخي: كيف فرج الله عنهم تلك الكربة، ورفع عنهم تلك المحنة، بعملهم الصالح، ومن ذلك العفة عما حرم الله، وحفظ الفرج عن الفاحشة، فقد دعا أحد هؤلاء الثلاثة بعفته عما حرم الله، وامتناعه عن ذلك مع تهيؤ الأسباب لذلك، ولكن مراقبة الله وتقواه منعته وحجزته عن ذلك.
ومن ثمرات العفة؛ صيانة المجتمع وحمايته من التردي في مهاوي الرذيلة والفاحشة، والتبرج والسفور والاختلاط المحرم، ذلك أن المجتمع كلما كان عفيفا، طاهرا، كلما دل على نقاء المجتمع وطهارته، وبذلك تقل الجرائم، ويحفظ الأمن، وتصان الأعراض، وتحفظ الأنساب، يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد، وهى منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقى ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وبنته وأخته وأمه، وفى ذلك خراب العالم كانت تلي مفسدة القتل في الكبر، ولهذا قرنها الله –سبحانه- بها في كتابه ورسوله في سننه"12.
ويقول أًيضاً: "المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن حملته الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم، فورثهم وليس منهم ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها، وأما زنا الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب أيضا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد، ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين"13.
ومن ثمرات العفة أيضا: السلامة والنجاة من نار السموم، كما قال -تعالى-: ((ثلاثة لا ترى أعينهم النار عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله))14.
فالزنا سبب من أسباب العذاب في الآخرة، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك كما في قصة الإسراء والمعراج الطويلة، وفيها: ((فقالا لي انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، وإذا فيه لغط وأصوات، قال فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، فقال: قلت من هؤلاء؟) إلى أن قال: (وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني).
ومن ثمرات العفة: التخلق بأخلاق الأنبياء والرسل، وسائر عباد الله الصالحين، والتشبه بهم، واللحوق بهم، فإن من أحب قوما حشر معهم، فكيف بمن عمل بعملهم، لا شك أنه سيكون معهم لا محالة بعد فضل الله ورحمته وكرمه..
ونضرب هنا أمثلة رائعة للعفة، فجميع أنبياء الله هم أعف الناس وأتقاهم له سبحانه، ولكننا نضرب هنا أمثلة فمن ذلك عفة نبي الله يوسف -عليه السلام-، وكذلك عفة الصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن ثمرات العفة أيضا: ما يحصل للعفيف من لذلة الانتصار على نفسه الإمارة بالسوء، بحيث يتحكم بها، ويسيطر عليها، بحيث ينهاها عن الهوى، كما قال ربنا: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} سورة النازعات(41) (40)، فمن خاف مقام ربه فإن له جنتان، كما قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} سورة الرحمن(46).
فلئن كان اللاهون العابثون يجدون لذة آنية وقتية في ممارسة الحرام، ثم تعقبها آهات وحسرات وتوجعات، فالشاب العفيف والفتاة العفيفة يجدان من لذة الانتصار على النفس أعظم مما يجده أصحاب الشهوات، إن الرجولة والإنسانية الحقة أن يقدر المرء أن يقول لنفسه لا حين يحتاج إلى ذلك، وأن تكون شهواته مقودة لا قائدة، أما الذي تحركه شهوته وتستعبده فهو أقرب ما يكون إلى الحيوان البهيم الذي لا يحول بينه وبين إتيان الشهوة سوى الرغبة فيها.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
النجاة من الإصابة بالأمراض الخبيثة التي تلاحق أصحاب الشهوات والنزوات؛ كالزهري والايدز والسيلان -نعوذ بالله من الخذلان-.
3- الطمأنينة وراحة البال: ذلك أن يسير وراء شهوته المحرمة يعاني عذاباً وجحيماً لا يطاق، أما من يعف نفسه فيعيش طمأنينة وراحة بال، إن الهم الذي يشغله ليس الهم الذي يشغل سائر الناس، والتفكير الذي يسيطر عليه ليس التفكير الذي يسيطر على سائر الناس، ولا عجب في ذلك، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم به، وخلقه لعبادته وطاعته، ومن ثم فلن يعيش الحياة السوية المستقرة مالم يستقم على طاعة الله -تبارك وتعالى-، فالسيارة التي صنعت لتسير في الطرق المعبدة يصعب أن تسير في غيرها، والقطار الذي صنع ليسير على القضبان حين ينحرف عن مساره لا يستطيع المسير.
وهكذا الإنسان فهو إنما خلق لعبادة الله وطاعته، فإذا انحرف عن هذا الطريق اضطربت حياته، وعانى من المشكلات، ولذا فأهل الكفر والإلحاد أقل الناس استقرارا وطمأنينة، وكلما اقترب العبد من الإيمان والطاعة ازداد استقرارا وطمأنينة.
ومن ثمرات: نيل الثناء الطيب، والسمعة الحميدة والثناء الجميل بين الناس؛ فالإنسان العفيف والمرأة العفيفة محل تقدير الناس، ومكان تقديرهم، وثقتهم، بخلاف من انتزع منه هذه الصفة، فإن الناس ينظرون نظر احتقار وازدراء، بل ولا يثقون فيه، بل إن أهل العفة يثق الناس فيهم، فالمرأة العفيفة، ذات السمعة الطيبة والسيرة الحسنة؛ يرغب الرجال في الزواج منها، بل ويتسابقون عليها؛ لأنهم يثقون فيها، بخلاف المرأة سيئة السمعة؛ فإن الرجال لا يحبون الزواج منها، ونقصد بالرجال هنا أهل العفة والشهامة من المسلمين.
ومن ثمرات العفة: أنها تكسب المرء الأوصاف الجميلة، كالعفيف، بينما الوقوع في الرذيلة والفاحشة تكسبه الأوصاف القبيحة.
ومن ثمرات العفة: سلامة المرء العقوبة الدنيوية، وذلك بإقامة الحد عليه إن كان ارتكب فاحشة الزنا، وصار بذلك غير عفيفا، وذلك بأن يجلد مائة جلدة إن كان بكرا، ويرجم بالحجارة حتى الموت إن كان ثيبا؛ كما نصت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
ومن ثمرات العفة: أنها طريق موصول إلى الزواج الميسر، والسعادة والطمأنينة في الحياة الزوجية، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل العفة ممن يعينهم الله ويفقهم ويسهل أمرهم، ويسددهم؛ فعن .... قال: ((والناكح يريد العفاف)). والله -عز وجل- قد حثنا على تزويج الرجال الصالحين، والإماء الصالحات، وإن كانوا فقراء؛ فقال: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } (32) سورة النــور} ووعدهم ووعده حق لا ريب فيه بالغنى {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}. وفي المثل: تزوجوا فقراء يغنكم الله.
وهذا لا يعني المخاطرة، والتعجل الغير مدروس للزواج، وإنما يعني أنه ينبغي للمرء أن يبادر إلى الزواج متى ما تيسر له ذلك، ولو بالكفاف، وترك البذخ والإسراف، وأن على الشاب أو الفتاة أن يتركوا المثالية في الزواج، وما يتعلق به من الصفات والمواصفات، وإنما عليهم أن يتوكلوا على الله وأن يبادروا بالزواج مع فعلهم للأسباب المعينة على ذلك- نسأل الله أن ييسر لشبابنا وفتياتنا أمر الزواج-.
فالشباب العفيف، والفتاة العفيفة يوفقهم الله ويسهل أمرهم بزواج يستمر ويدوم، لأن ما بني على باطل فهو باطل، وما كان لله فهو يدوم، وما كان لغيره فهو يزول،
وثمرات العفة وفوائدها كثيرة، أنها تقوى العزائم وتعلي همم النفوس، وتكون تسلية لكل شاب عفيف يرجو بعفافه وجه الله تعالى.
ومن ثمرات العفة: أنها تجمع خلال الخير كلها، بينما الفاحشة تجمع خلال الشر كلها؛ فهلموا -معاشر المسلمين- لنستمع جميعا إلى العلامة ابن القيم -رحمه الله- وهو يعدد لنا خلال الشر الذي تكتسب من هذه الفاحشة الشنيعة الزنى، فيقول -رحمه الله-: "والزنى يجمع خلال الشر كلها: من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيا معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرم، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.
ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمه وعياله، ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بذلك لقابله أسوأ مقابلة، ومنها سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره وهو الذي أوجب طمس نور الوجه وغشيان الظلمة له، ومنها الفقر اللازم وفي أثر يقول الله تعالى: ((أنا الله مهلك الطغاة ومفقر الزناة)).
ومنها: أنه يذهب حرمة فاعله، ويسقطه من عين ربه، ومن أعين عباده. ومنها: أنه يسلبه أحسن الأسماء، وهو اسم العفة والبر والعدالة، ويعطيه أضدادها كاسم الفاجر والفاسق والزاني والخائن.
ومنها: أنه يسلبه اسم المؤمن؛ كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))15، فسلبه اسم الإيمان المطلق، وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان...
ومنها: أن يعرض نفسه لسكنى التنور الذي رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه الزناة والزواني، ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة، كما قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (26) سورة النــور .
وقد حرم الله الجنة على كل خبيث، بل جعلها مأوى الطيبين ولا يدخلها إلا طيب، قال الله –تعالى-: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (32) سورة النحل، وقال تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (73) سورة الزمر، فإنما استحقوا سلام الملائكة ودخول الجنة بطيبهم، والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله –سبحانه- جهنم دار الخبيث وأهله، فإذا كان يوم القيامة ميز الخبيث من الطيب، وجعل الخبيث بعضه على بعض، ثم ألقاه وألقى أهله في جهنم، فلا يدخل النار طيب، ولا يدخل الجنة خبيث.
ومنها: الوحشة التي يضعها الله -سبحانه وتعالى- في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه، فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني تعلو وجهه الوحشة، ومن جالسه استوحش به. ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم له، وهو أحقر شيء في نفوسهم وعيونهم بخلاف العفيف فإنه يرزق المهابة والحلاوة.
ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة ولا يأمنه أحد على حرمته، ولا على ولده.
ومنها: الرائحة التي تفوح عليه يشمها كل ذي قلب سليم تفوح من فيه وجسده، ولولا اشتراك الناس في هذه الرائحة لفاحت من صاحبها ونادت عليه، ولكن كما قيل:
كل به مثل ما بي غير أنهم *** من غيرة بعضهم للبعض عذال
ومنها: ضيقة الصدر وحرجه، فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم، فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سببا إلى خير قط، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور وانشراح الصدر وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له دع ربح العاقبة والفوز بثواب الله وكرامته.
ومنها: أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.. -وإذا كان الله -... قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه لبسه يوم القيامة، وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة، فكذلك من تمتع بالصور المحرمة في الدنيا، بل كل ما ناله العبد في الدنيا فإن توسع في حلاله ضيق من حظه يوم القيامة بقدر ما توسع فيه، وإن ناله من حرام فاته نظيره يوم القيامة.
ومنها: أن الزنا يجرئه على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسرا إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر وبالشرك، وهو يدري أو لا يدري، فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها، فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة، وإذا علقت بالعبد فوقع في حبائلها وأشراكها عز على الناصحين استنقاذه، وأعيى الأطباء دواؤه، فأسيرها لا يفدى، وقتيلها لا يودى، وقد وكلها الله سبحانه بزوال النعم، فإذا ابتلي بها عبد فليودع نعم الله، فإنها ضيف سريع الانتقال، وشيك الزوال، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (53) سورة الأنفال، وقال تعالى:{وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (11) سورة الرعد ."16
وقال ابن القيم: وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة فكم في الزنا من استحلال محرمات، وفوات حقوق، ووقوع مظالم ومن خاصيته أنه الفقر ويقصد! ويكسب صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس ومن خاصيته أيضا أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت وقال سعيد بن عبادة رضي الله عنه لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله فقال تعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن متفق عليه وفى الصحيحين أيضا عنه إن الله يغار وإن المؤمن يغار غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه وفى الصحيحين عنه لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثني على نفسه وفى الصحيحين فى خطبته فى صلاة الكسوف أنه قال يا أمة محمد والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثم رفع يديه فقال اللهم هل بلغت وفى ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله وظهور الزنا من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة كما فى الصحيحين عن أنس بن مالك أنه قال لأحدثكم حديثا لا يحدثكموه أحد بعدي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول (( من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد))،وقد جرت سنة الله سبحانه فى خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه فلابد أن يؤثر غضبه فى الأرض عقوبة قال عبد الله بن مسعود ما ظهر الربا والزنا فى قرية الا أذن الله بإهلاكها ورأى بعض أحبار بنى إسرائيل ابنا له يغامز امرأة فقال مهلا يا بني فصرع الأب عن سريره فأنقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقيل له هكذا غضبك لي لا يكون فى جنسك خير أبدا، وخص سبحانه حد الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص أحدها القتل فيه بأشنع القتلات وحيث خففه فجمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة الثاني أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة فى دينه بحيث تمتعهم من إقامة الحد عليهم فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة فهو أرحم بكم منكم بهم ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره وهذا وإن كان عاما فى سائر الحدود ولكن ذكر فى حد الزنا خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلطة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم ! من أرباب الجرائم والوقائع والواقع مما بعد ذلك فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله عز و جل وسبب هذه الرحمة أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأراذل وفي النفوس أقوى الدواعي إليه والمشارك فيه كثير وأكثر أسبابه العشق والقلوب مجبولة على رحمة العاشق وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقرية وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليها ولا يستنكر هذا الأمر فهو مستقر عند من شاء الله من أشباه الأنعام ولقد حكي لنا من ذلك شيء كثير عن ناقصي العقول والأديان كالخدم والنساء وأيضا فإن هذا ذنب غالب ما يقع مع التراضي من الجانين فلا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه وفيها شهوة غالبة له فتصور ذلك لنفسها فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد وهذا كله من ضعف الإيمان وكمال الإيمان أن تقوم به قوة يقيم أمر الله ورحمة يرحم بها المحدود فيكون موافقا لربه سبحانه فى أمره ورحمته الثالث أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون فى خلوة حيث لا يراهما أحد وذلك أبلغ فى مصلحة الحد وحكمة الزجر وحد الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة وذلك لاشتراك الزنا واللواط فى الفحش وفى كل منهما فساد يناقض حكمة الله فى خلقه وأمره فإن في اللواط المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتي فإنه يفسد فسادا لا يرجى له بعده صلاح أبدا ويذهب خيره كله وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه فلا يستحي بعد ذلك لا من الله ولا من خلقه وتعمل فى قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم فى البدن وقد أختلف الناس هل يدخل الجنة مفعول به على قولين سمعت شيخ الإسلام رحمه الله يحكيهما والذين قالوا لا يدخل الجنة احتجوا بأمور منها أن النبي قال لا يدخل الجنة ولد زنا فإذا كان هذا حال ولد الزنا مع أنه لا ذنب له فى ذلك ولكنه مظنة كل شر وخبث وهو جدير أن لا يجيء منه خيرا أبدا لأنه مخلوق من نطفة خبيثة وإذا كان الجسد الذي تربى على الحرام النار أولى به فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام قالوا والمفعول به شر من ولد الزنا وأخزى وأخبث وأوسخ وهو جدير أن لا يوفق لخير وأن يحال بينه وبينه وكلما عمل خيرا قيض الله ما يفسده الجواب الكافي عقوبة له وقل أن ترى من كان كذلك فى صغره إلا وهو فى كبره شر مما كان ولا يوفق لعمل صالح ولا لعلم نافع ولا توبة نصوحا والتحقيق في هذه المسألة أن يقال إن تاب المبتلى بهذا البلاء وأتاب ورزق توبة نصوحا وعملا صالحا وكان فى كبره خيرا منه في صغره وبدل سيئاته بحسنات وغسل عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات وغض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات وصدق الله فى معاملته فهذا مغفور له وهو من أهل الجنة فإن الله يغفر الذنوب جميعا وإذا كانت التوبة تمحو كل ذنب حتى الشرك بالله وقتل أنبيائه وأوليائه والسحر والكفر وغير ذلك فلا تقصر عن محو هذا الذنب وقد استقرت حكمة الله به عدلا وفضلا أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب وقد قال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر، فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ولكن هذا في حق التائبين خاصة وأما مفعول به كان في كبره شرا مما كان في صغره لم يوفق لتوبة نصوحا ولا لعمل صالح ولا استدرك ما فات ولا أحيى ما مات ولا بدل السيئات بالحسنات فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل الجنة عقوبة له على عمله فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى فتضاعف الحسنات وإذا نظرت إلي حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على أعمال السيئة قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله وأعلم أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسباب ولها طرق وأبواب أعظمها الإنكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها والإعراض عن الأخرى والإقدام والجرأة على معاصي الله عز و جل وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الجرأة والإقدام فملك قلبه وسبي عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة فربما جاءه الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد وإن كرر عليه الداعي وأعاد قال ويروي أن بعض رجال الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له قل لا إله إلا الله فقال الناصر مولاي فأعاد عليه القول فقال مثل ذلك أصابته غشية فلما أفاق قال الناصر مولاي وكان هذا دأبة له كلما قيل لا إله إلا الله قال الناصر مولاي ثم قال لابنه يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك والقتل القتل ثم مات على ذلك قال عبد الحق رحمه الله وقيل لآخر ممن أعرفه قل لا إله إلا الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان "
إذن –يا عباد الله- هذه بعض مفاسد هذه الجريمة الشنعاء، والتي بسببها يفقد المرء وصف العفة، ويوصف بأوصاف الفاحشة، ولاشك أن ما من مسلم إلا وهو يرغب في الصفات الجميلة، ويكر الصفات المقيتة، وبالتالي فإن عليه أن يعمل الصفات التي توجب له خيري الدنيا والآخرة، وأن يبتعد عن كل صفة توجب له أي شر من دنيا أو آخرة.
نسأل أن يجنبنا وإياكم الزلل، وأن يتقبل منا صالح القول والعمل..
أيها الناس: ثمة جملة من الأسباب التي تفقد العفة، فمن ذلك:
1. تسخير الإعلام بأنواعه من مقروء ومسموع ومشاهد لبث ما يثير مكامن الشهوة ويخمر العقل ويفسد الروح مما يفسد على الناس عفتهم ويضعفها.
2. الإعجاب بنظم الغرب وتقاليده، والانبهار بحضارته ومدنيته، مما يدفع بكثير من الناس إلى السفر إلى مواقع تتجلى فيها إشاعة الفاحشة ونشر بواعثها ومثيراتها من نشر للأغاني الساقطة والأفلام الآثمة والمشاهد الفاضحة والمجلات الهابطة والروايات الساقطة .
3. تعرية المرأة وتحريرها واستعبادها وإخراجها من بيتها للتمثيل والإبداع في مسابقات الجمال وعروض الأزياء والفنون الجميلة وغيرها مما يجلب الفساد والإفساد للمجتمعات .
4. تيسير المحرم وتكثير سبل الغواية وطرق الفاحشة وتنوعها في الأسواق والطرقات والمحلات والمراكز الضخمة والشركات الهائلة إلى غير ذلك ..
5. التساهل من المسلمين في إدخال الرجال والخدم في البيوت واختلاطهم في المراكب والمساكن وأماكن الترفيه مع النساء والفتيات وضعاف النفوس .
6. الأسواق العامة وما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة من كشف للوجه وتجميل له وإبداء لمفاتن الجسد .
7. الدعوة لحرية للفن والترويج له وكسر القيود أمامه وصرف طاقات وشباب وعقول الأمة لهذا العفن .
8. وسائل ومنتديات الترفيه غير البريء كحفلات الموسيقى والرقص والغناء والمسارح الهابطة والنوادي المشبوهة ودور السينما الرديئة .
9. غياب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر والتساهل فيه وعدم الاهتمام به والرفع من شانه وأنه صمام المجتمع .
10. معوقات الزواج من مغالاة في المهور واشتراط التكاليف الباهضة للحياة الزوجية والمبالغة في اشتراط المؤهلات العلمية والمكانة الاجتماعية العالية للشباب مع اشتراط بعض الأسر الزواج لبناتهن حسب تسلسل أعمارهن .
وأخيرا ..
ليس الظريف بكامل في ظرفه حتى يكون عن الحرام عفيفا فإذا تعفف عن معاصي ربه فهناك يُدعى في الأنام عفيفا.