السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفنون التشكيلية الفلسطينية واحة بصرية مفتوحة على الرمز في دلالاته
المعرفية وإيحاءاته السياسية متنوعة المرجعيات والمشارب الوجودية.
ومرهون بإحالات المبنى"البناء الشكلي- التقني" ودلالات المعنى "المضمون الفكري"،ويُشكل حالة فريدة من الخصوصية التعبيرية والتفرد الأسلوبي قد
لا نجده في كثير من الفنون التشكيلية العربية أو في محطات الابتكار الأجنبي.
لأنه فن ينتمي إلى قضية إنسانية عادلة بكل ما تعنيها الكلمة من معنى ومقاصد
وربط مفهومي. فهي قضية غير مسبوقة في التاريخ القديم والحديث والمعاصر،
مُتصلة بشعب عربي فلسطيني تعرض وما زال على امتداد قرن من الزمن لغزوة
"صهيونية" عدوانية احتلالية إجلائية قائمة على تشويه الحقائق واستلاب الآخر،
وخلق معطيات وقائع جديدة متناسبة وفلسفة العدوان. من هنا يكون مبعث
الخصوصية في الفن التشكيلي الفلسطيني في شموله الواضح على مفردات
وعناصر متناسلة من الرمز بأشكاله ومعانيه المتعددة باعتبار القضية الفلسطينية
قضية سياسية بامتياز.
من لوحات الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط
الرمز الذي نعنيه هو ذلك الطيف الواسع من الرؤى والمشاهدات البصرية المتصلة
بذاكرة المكان العربي الفلسطيني التعبيرية بواسطة الخط واللون والسطوح
والتقنيات المُتاحة في ميادين الفن التشكيلي الأكاديمي المدرسي والتعبيري المُتحرر
من القيود النمطية والمُقدم عِبر ابتكارات الفنانين التشكيليين بصياغات مُعاصرة،
وبأبعاد وخلفيات تاريخية وحضارية. ومحمول بمعطيات التراث والمعايشة اليومية
لتفاصيل القضية الفلسطينية منذ نشوءها على مسرح السياسة الدولية مع نهايات
القرن التاسع عشر وحتى يومنا الآني المُعايش. دائر في فلك الدلالة والإشارة
وآليات الوصف البصري سواء أكانت جزئية تفصيلية أو كلية شاملة موحية مُعبرة
عن واقع الحال الفلسطيني الحياتي والُمقاوم، فردية أو جماعية وطنية أو قومية
محلية أو دولية. يُترجم لغة سردها الفني البصري فنانات وفنانون تشكيليون من
كافة الأطياف الفنية التشكيلية والأجيال، الرمز في نهاية المطاف هو مجموعة من
القيم الإنسانية والتفاعل الوجداني والجمالي مع هذه القضية الإشكالية في تاريخ
الصراع العربي – الصهيوني.
إن الفنون التشكيلية الفلسطينية مفطورة على الرمز ابتكاراً ومُنتجاً، ودلالات
ومفاهيم وإشارات موحية مُتجلية بقيم بصرية وجمالية معشبة بخصوصية الهويّة،
ومُكحلة في معالجة تقنية حاشدة بمعاني الرمز والدلالة والوصف والتعبير الشكلي
في حدود المكونات والمواضيع التي تعالجها مُخيلة هذا الفنان أو تلك الفنانة فكرة
وخطاً ولوناً وإلى ما هنالك من مكونات فنية وشكلية وتقنيات. فالرمز هو جزء
لا يتجزأ من تاريخ وتراث وحضارة وجماليات الشعب العربي الفلسطيني بمناقبه
الحياتية اليومية المهنية والثقافية والدينية التي تلازمه عِبر صيرورة المكان والزمن
العابر. سواء أكانت في عصوره المغرقة بالقدم أو الحديثة و المعاصرة في سياق
حلقات متعاقبة لتواصل الأجيال. وما شكلته ابتكارات الفنانين التشكيلية من فرشة
معرفية وبصرية حافلة بمقولات الدور والوظيفة في معابر القيم والجمال والكفاح
والانتماء، ومدى ارتباطه الوثيق بمحيطه العربي كوحدة قومية وهوية عربية نضالية
ودلالة كفاحية مستمرة في التاريخ العربي المعاصر.ومواكبة لنكبة فلسطين عام
1948 بفعل الغزوات الاستعمارية الغربية الأوربية التي رافقت بدايات القرن
العشرين لاسيما احتضان وولادة الحركة الصهيونية في مؤتمر بال عام 1897 وعقد
اتفاقيات سايكس – بيكو عام 1916، والتي أمست المشكلة الفلسطينية منذ ذلك
التاريخ بمثابة القضية المركزية للأمة العربية الناهضة في أنظمتها الوطنية ضد
أشكال الاستعمار القديم والحديث. وأصبحت تحتل مساحة من الوجدان العربي
ودلالة قياسية لنبض الشارع وكشف حقيقة العواطف والأحاسيس المُعبرة عن الهم
الوجودي المشترك في معركة الوجود لهذا الشعب مع الكيان الصهيوني، وما كرسته
هذه القضية المصيرية والحيوية من محمولات دلالية ورمزية في دروب المعاناة
والأمل والمتوافقة مع أشكال التفاعل الإنساني متنوعة الاتجاهات والميادين.
من لوحات الفنان الفلسطيني اسماعيل عاشور
إن نكبة فلسطين عام 1948 التي قسمت الشعب العربي الفلسطيني إلى قسمين
مؤلمين في أن معاً. واقع الاحتلال والقمع والسطوة الصهيونية الاستيطانية،
والتشرد وفقدان الأرض والوطن والغربة في أماكن اللجوء العربية والدولية من جهة،
وما تعرض له هذا الشعب المُقسم من مؤامرات عربية وأوربية وغربية وأمريكية
متكررة لإنهاء وجوده كشعب وهوية قومية عربية وإنسانية وحضارية وجمالية من
جهة ثانية. وما شكله الرمز في سياقه كمفهوم واسع الطيف في كافة منابت الابتكار
وما يحتله من مكانة فاعلة في صيرورة التصدي لحلقات المؤامرة على هذا الشعب
العربي الفلسطيني المكافح. قد كان للرمز في مساحة الابتكار الفني التشكيلي
الفلسطيني الأهمية البارزة، والتواجد الدائم في كافة أعمال الفنانين التشكيليين
الفلسطينيين والعرب والمكافحين العالميين في نصرة وعدالة القضية العربية
الفلسطينية سواء عِبر لوحة وملصقة وحفرية ونصب نحتية وسواها من أشكال
التعبير الفني التشكيلي.
الرمز في المنتج الفني التشكيلي الفلسطيني مُرتبط مباشرة بواقع الاحتلال
الصهيوني،ومنخرط في الحدث الفلسطيني ومعابره الكفاحية عِبر قنواته النضالية
المتاحة. حيث وقف الفنان التشكيلي الفلسطيني في الخندق الدفاعي الأول المُدافع
عن الحقوق الوطنية والقومية والتاريخية والدينية والحضارية والجمالية للشعب
العربي الفلسطيني في فلسطين المحتلة ومن خارجها، والمتفاعل مع مسألة الصراع
العربي – الصهيوني وتفاعلات اللحظة الآنية المعايشة ليوميات الآلام الفلسطينية. تُقحم الفنان التشكيلي الفلسطيني في مساحة الحدث وتضعه وجهاً لوجه أمام
مسؤولياته كإنسان وفنان ومقاوم، وتدفعه إلى ضرورة التعاطي مع الرموز التعبيرية
تواصلا كفاحياً مشروعاً وأخذ زمام المبادرة التحريضية والدعائية لأشكال النضال
الفلسطيني وبكل مستوياته وآلياته وأدواته. ربطاً مباشرا لمسالك الرمز والدلالة
كرغبة مقصودة لتحقيق أهداف منشودة من وراء كل عمل فني تشكيلي إذ يتجلى
فيها الرمز في مستويات بحث متكاملة (الفكرة والتقنية الخبرة) وقدرة الفنانين على
تمثل الموهبة والدربة والابتكار في أعمال فنية تشكيلية حاشدة بالرموز. منفذة
بأساليب تقنية متعددة المفردات الفنية التشكيلية كعناصر مرصوفة في حضرة
التشكيل والتكوين وتوصيل الفكرة (فلسفة الفن ومبرراته) وكشف خلفيات
ومضامين النصوص البصرية المسرودة، حيث يُشكل المنتج الفني التشكيلي
الفلسطيني المعادل الموضوعي لمجمل طرق النضال الفلسطيني في معابر
الابتكار الفنية الأُخرى الموازية والمندمجة في سياق تكاملي وشمولي مع ماهية
وكينونة الفنون الجميلة التشكيلية كمناهل تعبير، سواء أكان هذا الرمز الدلالي
عنصراً متفرداً أو متكرراً في أبعاد العمل الفني أو مُتشكل من مجموعة عناصر
فنية متجانسة ومتكاملة خطياً ولوناً وتقنية وفكرة تعبيرية ومواقف سرد بصري.
من لوحات الفنان الفلسطيني بشير حسين السنوار
معزوفات السرد التقني المحمولة والمؤتلفة إيقاعاً وتجانساً عِبر (الخط،اللون،بناء
التكوين) كمجالات حيوية لإيصال الفكرة المنشودة في سياق رسالة جمالية
إنسانية حضارية وكفاحية معبرة عن واقع وحياة الشعب العربي الفلسطيني
وتاريخ أمة. وتظهر تجليات الفكرة التصويرية في مداخلاتها الدلالية من خلال
مُعطيات الرمز البصري العاكس لمرئيات التكوين وتوليفات العمل الفني تقنية
وفكرة متناسبة ومقولة الفنان الوجودية والتعبيرية والدور الوظيفي والكفاحي
كجزء لا يتجزأ من مخرجات العملية النضالية في مجملها الكفاحي. إن أية نظرة
موضوعية عامة عابرة أو مقصودة ومُتفحصة لعموم المنتج الفني التشكيلي
الفلسطيني داخل فلسين المحتلة وفي مناطق الاغتراب العربية والعالمية التي
واكبت حركة النضال الوطني والقومي الفلسطيني منذ بداية القرن العشرين،
وتواصلت مع انطلاقة النضال الفلسطيني المسلح في الفاتح من كانون الثاني عام
1965 وحتى اللحظة الآنية المعايشة وما تلاها من خطوات إقدام وإحجام ملتصقة
بهموم الوطن الفلسطيني ومسيرته النضالية المتصلة بمفاهيم المواطنة والوطن
والهويّة والانتماء، وما رافقها من عوامل النكوص والإحباط والانسلاخ والتمزق في
تداعيات القطرية العربية، والانحياز للوطن القطري الضيق والتخلي عن مركزية
القضية الفلسطينية في مساحة الفعل العربي الرسمي.وقنوات الأمل والتفاؤل
المشوبة بدماء الشهداء والتضحيات العربية والعالمية والفلسطينية وإلى ما هنالك
من تعبيرات وصفية أدبية ورمزية أوجدت للفنان التشكيلي الفلسطيني وسواه من
المناضلين فسحة رحبة لدور نضالي مميز للتعبير والتوصيل، ليجد الفنانين ذاتهم
المُبتكرة والإنسانية داخل أحضان الحدث جنودا مجهولين، وتُمثل جهودهم الفردية
لحمة إضافية فاعلة وقادرة على تشكيل لغة كفاحية وتواصل نضالي مع دروب
القضية الفلسطينية كتفًا بكتف مع المقاتلين في مواقع الصمود والتحدي وحروب
الوجود.
من لوحات الفنان الفلسطيني علي سعيد الأضم
ارتبط الرمز في أشكاله الخطية واللونية وسطوح مكوناته وأساليب المعالجة التقنية
والفكرية المستلهمة في سياق مفردات وجُمل فنية تشكيلية مُستعارة من عالم
الرموز الفلسطينية في عدة مستويات:
1- الرموز التراثية:
هي مجموع العناصر والمفردات الفنية التشكيلية المستقاة من الواقع الفلسطيني
المُعايش أو من بطون الكتب والمجلات، محاكاة مباشرة بالرسم واللون والخط
والتقنيات المُتعددة أو المستحضرة من جماع المخيلة المُعبرة عن ذلك التراكم
الثقافي واسع الطيف البصري والمُتجلي بنبش ركام ذاكرة المكان الجمالية من خلال
مُختلف الصنائع الفلسطينية والمهن الشعبية للرجال والنسوة بأن معاً سواء في
الريف أو المدينة وشامل بطبيعة الحال للتقاليد الحياتية اليومية وما يتصل بها من
أفراح وأحزان، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر(القمر، الغزال، الخراف،البيت،
النافذة، الساقية، النهر، البحر، الجبل، الديوك، الكوفيات، الأسماك، الماء، الأشجار،
الأيقونات، الشمس، الزخارف النباتية والهندسية والحيوانية، المهن اليدوية، العادات
والتقاليد، الهلال والحكايات والأشعار والمقولات والأهازيج والأغاني.
من لوحات الفنان الفلسطيني فتحي غبن
2- الرموز الأسطورية:
هي مجموعة المفردات والجُمل الفنية التشكيلية المأخوذة من قصص الأولين سواء
منها المسرود عِبر تواصل الأجيال أو المُستلهم من الكتب المقدسة أو من حفريات
المعرفة والآثار، فيها مُطارحات غرائبية لجموح الخيال وتجليات الرؤى وتمثُل الروايات
وتقمص الأساطير فنياً، وتأتي في مقدمتها قصص الآلهة، وفلسفة الوجود والحكام
والأديان وحوار الحكايات المُطابقة لكتب (ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، الزير سالم،
الغولة، الحصيني، شهرزاد، عنقاء الرماد، عناة، داجون، أبو زيد الهلالي، عنترة، الشاطر
حسن ومحمد) على الطريقة الشعبية الفلسطينية.
3- الرموز الحضارية:
هي مجموعة الدلالات المتصلة بمكونات الوجود التاريخي الفلسطيني في أنساقه
الحضارية، والانتساب إلى مكونات شعب مُتشكل بفلسطين على مدار دورة الحياة،
منذ ما قبل الفينيقيين والكنعانيين مروراُ بالحقبة العربية الإسلامية وحتى التاريخ
المعاصر الذي نشهد فيه يوميات انتفاضة الأقصى.
من لوحات الفنان الفلسطيني كامل المغني
4- الرموز النضالية:
هي مجموعة الخصائص والمكونات المتصلة بمفاعيل الصراع الأساسية مع جبهة
الأعداء الداخليين والخارجيين التي يحتل الشعب العربي الفلسطيني بكل أبنائه
المجال الأبرز لتوصيف حالات المواجهة المباشرة في مقاومة الاحتلال الصهيوني
بما يمتلكون من إرادة وصدور والتي تجعل من صورة (الفدائي) الحلقة الأبرز في
مساحة الرمز في فضاء العمل الفني التشكيلي وبما يُحيطه من دلالات وخلفيات
متممة ومُساندة (الحصان، البندقية، الكوفية، رماة الحجارة). دلالات الرمز المنتشرة
في أعمال ولوحات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين والعرب والعالميين تؤكد على
أهميته في كافة المعابر البصرية، ويُصبح للخطوط والمساحات والألوان معاني
متجددة مفتوحة على الذاكرة البصرية المكانية والزمنية . يُقدمها الفنانون ولائم
بصرية حافلة بفقه الرموز والمعاني، وتغدو دائرة الألوان الأساسية (الأحمر، الأصفر،
الأزرق) والمساعدة المتممة (الأبيض والأسود) وتدريجاتها اللونية الاشتقاقية بروداً
وحرارة وحِدة لونية، لأن (الأحمر) المجال الحيوي المُعبر عن مفاهيم الثورة والحركة
المقاومة من خلال رموز بصرية عاكسة لمسيرة تدفق شلال الدماء في شرايين الثوار
المكافحين. الذين يقدمون أرواحهم قرابين حب ووفاء وولاء على مذبح الحرية
ومسالك العودة إلى فلسطين أعراساً وشهداء في قافلة الأجيال والعودة، أما
"الأزرق" بمدلوله المتعدد الخصائص والسمات يُعبر عن فضاء الحرية والسمو
الإلهي والنقاء ونبض الحياة وسمو النفس البشرية وحالات التصوف والهيام في
مساحات الوطن وأماني أبنائه في تحقيق الأهداف النضالية الكبرى في مسيرة الآلام
الفلسطينية عِبر قرن من الزمن، واللون (الأصفر) يُعبر عن مواسم الحصاد ونور
الشمس والفضاء الكوني المتسع لحيوية الشرق العربي ودوام شمسه ونهارا ته.
بينما تؤلف الألوان ( الأبيض والأسود) حالة من تمايز مابين مفارق الحياة في
تناقضها الأبدي ما بين الخير والشر وملامح النصر في مُقابل الهزيمة، ومناطق الحزن
والقنوط في مواجهة مع الأمل والصمود. بينما تأخذ كافة الألوان الاشتقاقية الناتجة
عن مزيج لونين أو أكثر واحة مفتوحة على الدلالة والرمز ومفاعيل المعاني مثل
(الأخضر) كمدلول رمزي للطبيعة والخير والعطاء وازدهار الحياة وتألقها واستمرار
جذوة الكفاح والتفاؤل في تحقيق الخير الوفير. لتشكل دائرة الألوان في نصوصها
اللونية حِدة وتوافقاً وحدة عضوية متكاملة لمعزوفة الوطن والنضال الوطني
الفلسطيني في إيقاعات بصرية فنية تشكيلية، حاشدة، بالرموز والدلالات المعبرة
والموحية تبعاً لذات الفنان المُبتكرة وقدراته في امتلاك أدواته ومفرداته وأساليب
الوصف والتقنية والمتوافقة مع اتساع مساحة التأليف الرمزي لتجليات الأفكار
والحدس والابتكار التي تصب في حضرة الوطن وفضاء القضية الفلسطينية في
سياق فنون تشكيلية أصيلة معبرة عن ذات مقاومة في معركة الوجود وموقعها في
خارطة الصراع، أنهاراً جمالية متدفقة تساهم في صناعتها ابتكارات مُساندة من قِبل
الفنانين العرب والعالم، أولئك الواقفين في خندق التفاعل والمواجهة في دروب
التحرير والعودة متعددة المسالك والأشكال.
من لوحات الفنان الفلسطيني نعيم ديب رجب
م/ن