الرهبة والإنبهار هو الشعور الذي ينتباك بمجرد أن تغادر محطة القطارات الرئيسية في مدينة كولونيا الألمانية ، ذلك أنك تجد نفسك أمام مبنى ضخما أبرز صفاته العلو الشاهق واللون الأسود الكالح الذي صبغ جدران هذا المبنى على مدى عقود من العوامل الجوية والمناخية في هذه المدينة الجميلة، بالإضافة إلى ذلك الكم الهائل من التماثيل الذي يغطي المبنى لدرجة انك تشعر للحظة أن ماتشهده ليس الإ حائطا لعرض التماثيل. أول تصرف طبيعي سيكون البحث عن زاوية تلقتط منها صورة كاملة لهذا المبنى، ولن تجد في الغالب تلك الزاوية التي تمكنك من التقاط صورة مناسبة فتقرر بعدها التقاط صورة بانورامية في أفضل الأحوال، وبلا شك سيكون التقاط الصور التذكارية لنفسك امام هذه المبنى خيارا لا مناص منه . وما إن تقترب من المبنى الشاهق والمخيف ستنبهر بطريقة بنائه التي تعيدك إلى ما قرأته عن العصور القديمة وفنونها المعمارية.
هذا المبنى الذي تحمل كل زاوية منه تحفة فنية، هو "كاتدرائية دوم"، مقر رئيس أساقفة كولونيا الذي استغرق بناءها أكثر من 600 عام، إذ بدأ تشييدها في عام 1248 وتم إهمالها في عام 1473، ثم استأنفت أعمال البناء في عام 1840 وانتهت في عام 1880 لتشكل حينها أطول مبنى في العالم. هذه الكاتدرائية هي فخر الشعب الكولوني وتستخدم كنقطة توجه إذ تهيمن على بانوراما المدينة ببرجيها العملاقين، البرج الشمالي (157.38 م) والجنوبي الذي يقل طوله عن الشمالي بـ 7 سنتيمترات.
تضررت كاتدرائية كولونيا بشدة جراء الغارات الجوية التي تعرضت لها خلال الحرب العالمية الثانية ولكن تم ترميمها بالكامل عام 1956. صممت كاتدرائية دوم والتي تسمى أيضا "الكاتدرائية العليا للقديسين بطرس ومريم"، بفن العمارة القوطية والمسيحية وهي أكبر كنيسة كاثوليكية في أوروبا الشمالية وأكثرها إثارة للإعجاب، ورابع أطول كاتدرائية في العالم وهي أحد مواقع التراث العالمي، و تعد من معالم ألمانيا الأكثر زيارة، إذ تجذب حوالي 20 ألف زائر يوميا. بدأ بناء الكنيسة في كولونيا في القرون الوسطى لتكون مكانا للعبادة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، واعتبرت تحفة معمارية وشهادة قوية على قوة واستمرار الاعتقاد المسيحي في العصور الوسطى والحديثة في أوروبا.
تم وضع حجر الأساس يوم 15 أغسطس 1248، من قبل رئيس الأساقفة كونراد فون هوتشستادن، وفي منتصف القرن 14 بدأ العمل على الجبهة الغربية ولكن أعمال البناء توقفت عام 1473، مع إنجاز البرج الجنوبي المزود بجرس وتوج برافعة ضخمة بقيت في المكان كمعلم على أفق مدينة كولونيا لمدة 400 عام. مع الحماس الديني في القرن 19، ومع اكتشاف المخطط الأصلي للواجهة الأمامية للكنيسة، وبدعم من المحكمة البروتستانتية، تقرر استكمال أعمال البناء في الكاتدرائية. وقد تحقق ذلك بمساعدة مؤسسة «سانترال دومبوفيرين» التي جمعت التبرعات لتغطية ثلث التكاليف الباهظة بينما تكفلت الدولة البروسية بالثلث الباقي. استأنف العمل في عام 1842 في الكاتدرائية وفقاً للتصميم الأصلي الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولكن باستخدام تقنيات البناء الحديثة ، بما في ذلك عوارض السقف الحديدية.
الاحتفال ببناء أكبر كاتدرائية في ألمانيا كان حدثاً وطنياً في 14 أغسطس 1880، أي بعد632 عاما من انطلاق أعمال البناء، وحضر الاحتفال كبار الشخصيات السياسية والدينية منهم الإمبراطور فيلهلم الأول. الحرب العالمية الثانية: تعرضت الكاتدرائية لـ14 ضربة بالقنابل الجوية خلال الحرب العالمية الثانية، وأصيبت بأضرار بالغة، إلا أنها بقيت شامخة في المدينة وكان البرجين التوأمين معلما بارزاً تتعرف عليه طائرات العدو بكل سهولة. الصيانة: إلى يومنا هذا، يجري باستمرار تنفيذ أعمال الإصلاح والصيانة في أقسام المبنى على يد أفضل عمال البناء في منطقة الراين، ونادرا ما يكون المبنى خاليا تماما من السقالات، إذ تساهم الرياح والأمطار والتلوث في تآكل الحجارة. في 25 أغسطس 2007، عمل الفنان الألماني جيرهارد ريختر على تنفيذ 113 متر مربع من الزجاج الملون والمزركش للنوافذ الجنوبية العملاقة، وتم تنفيذ الزجاج عن طريق تركيب 11 ألف و500 قطعة زجاج صغيرة ملونة وترتيبها عشوائيا عن طريق الكمبيوتر. وبحسب المرشدين السياحيين فقد خصصت الحكومة الألمانية أكثر من 60 مليون يورو سنويا لأعمال الصيانة لهذه الكنيسة، ويبدو من خلال الأجزاء التي تمت صيانتها لون الرخام الأبيض الذي يغطي جدران الكنيسة الخارجية بالكامل. موقع التراث العالميفي عام 1996، تم إضافة الكاتدرائية إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو. وفي عام 2004 انظمت لقائمة "التراث العالمي المهدد بالخطر"، وهي الموقع الوحيد المهدد بالخطر في الغرب، وذلك بسبب خطط لبناء بناية شاهقة بالقرب من الكاتدرائية، مما سيشوه منظرها، ولكن تمت إزالة الكاتدرائية من قائمة مواقع الخطر في عام 2006، في أعقاب قرار السلطات الحد من ارتفاعات المباني التي شيدت قربها وحولها. هندسة معمارية يشبه تصميم كاتدرائية كولونيا بشكل كبير تصميم كاتدرائية اميان في فرنسا من حيث مخطط المستوى الأرضي والارتفاع ويظهر مخططها على شكل علامة الصليب كما هو معتاد في الكاتدرائيات القوطية. تضم الكاتدرائية ممرين رئيسيين تتوسطهما أعمدة مرتفعة تساعد على دعم واحدة من أعلى الأسقف في العالم. أكثر الآثار تقديسا في الكاتدرائية هي تابوت المجوس، الذي يرجع تاريخه إلى نحو عام 1200 ووضع الكاتدرائية في خارطة وجهات الحج المسيحي. كما تضم الكاتدرائية تماثيل تمثل سلالة الأنبياء وفقاً للاعتقاد المسيحي، وتماثيل لمريم العذراء واليسوع. وأكثر التماثيل جذباً للحجاج المسيح هو تمثال العذراء مريم وطفلها الذي يعود تاريخه لأواخر القرن 17، ويصور معجزة وضعها، وتم الكشف عن رأس العذراء وطفلها فيما تم تغطية جسديهما بقماش حريري أبيض تم تجديده آخر مرة عام 1991. يمكن للزوار الصعود 509 خطوة للدرج الحلزوني المبني من الحجر للوصول إلى منصة العرض التي ترتفع لحوالي 98 مترا فوق سطح الأرض والتي تمنح إطلالة رائعة على نهر الراين ومعالم المدينة، وبعد المنصة تتواصل الخطوات لتنقل الزوار إلى غرفة الأجراس التي تضم جرس «سانت بيتر»، أكبر جرس كنيسة في العالم بوزن 24 طن. الخزانة الكاتدرائية تقع الخزانة الكاتدرائية في السرداب حيث يتم المحافظة على كنوز الكنيسة التي يرجع تاريخ بعضها إلى القرن الرابع، منها آثار مقدسة مصنوعة من الذهب والفضة والبرونز والعاج، ومنسوجات، ومنحوتات من العصور الوسطى. إضافة إلى كونها موقعا للتراث العالمي، تعتبر كاتدرائية دوم وجهة سياحية شهيرة وقبلة مهمة للحجاج المسيح.