إن في رحلة الحج تذكرة ً لأولي الألباب .. فيها تبصرة لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد .. فيها غسل لرين القلوب .. وشحن للروح .. وقرع لإحساس النقاء والإرتباط الوثيق بالله في ظل زحمة الحياة وتسارع أحداثها .. تبارك من سن الحج .. تبارك من شرع مناسكه .. تبارك من أوحى لنبيه بالآذان به .. وعلّق به القلوب .. في الحج مظاهر عجيبة .. شغفت ُ بها وتعلق بها خاطري ..
# الوقفة الأولى :
في مكان صغير تزدحم جماعة هائلة من الناس ...
تلك تصلي وتلك تتقلب في فراشها .. تلك تستعد لتناول إفطار الصباح .. وتلك تعين كبيرة ً في السن .. وتلك ...وتلك ..
ومن بين فوضى النساء التي يعجز عنها أعداد مهولة لتقيم فيها النظام ..
سواء ً كان هذا في الحفلات أوالاجتماعات أوالمدارس أو غيرها ..
فجأة ..
وفي دقائق لا تتجاوز الخمس ..
تتحول الصالة لخلية نحل نشطة لها أزيز عجيب فالكل يرتب فراشه ويزيله ..
يضع حاجايته في حقيبته ..
يرتدي عبائته ..
ويقف للخروج ..
من رتب هؤلاء النسوة...؟
من رزقهن هذا النظام العجيب وهن مئاااااات ..؟؟
اغرورقت عيناي بالدموع وأنا اتأمل في هذا النظام ..
التحقت بمعاهد وزرت جامعات ..
وشاهدت فئات مختلفة المستويات فلم أشهد ما شهدته في هذه الدقائق الخمس ..
سبحان الذي اصطفاهم وعلمهم درسا ً في النظام والانضباط لو ساروا عليه بعد حجهم لصلحت لهم الحياة ..
ياااااه ياربي ما أعظمك ..!
في كل مشعر رأيت لك ِ درسا ً ..
ما أعلمك وأجهلني ..
حكمك في كل مكان ويخفى علي الجل وتأذن لي بكرمك بالبعض ..
فاجعلني ياربي ممن يفيده علمه ويهديه إلى العمل ..!
ياااااااارب ..!
# الوقفة الثانية :
تحت جسر الجمرات .. ألوف الناس..
لغات مختلفة .. وجنسيات متعددة ..
وألسنة شتى ..
لا رابط سوى "لا إله إلا الله " ..
ويالها من رابط ..!
الكل يسير في اتجاه .. لا أحد يرتب السير ..
ولا نظام يحكم الخلق ..
غير رعاية الله ..
سبحان من ساقهم لمكان ٍ واحد ..
وحفظهم ويسر لكل واحد منهم مقصده ..
منظر مهيب ..
جموع بشرية .. جاءت من كل فج عميق ..
البعض باع مالديه كله ليحظى برؤية هذه المشاعر ..
والبعض سار شهورا ً ..
والبعض جاء على قدميه ..!
البعض أمضى عمره كاملا ً لتطأ قدميه هذه الأرض ..
سبحان من أعطاهم وكفل لهم أمنهم ..
سبحانك رب البيت ..
منظرهم ذكرني بمشهد يوم آخر أكبر..
يوم فيه يجتمع الناس ..من كل فج ..
والفرق هو أن ذاك اليوم يوم فزع عظيم ..
واليوم عمل ..وغدا ً حساب ٌ ولا عمل ..!
رحم الله ضعفي وتقصيري في أمري ..
يااااااارب تقبله مني ويسره لي في قابل ..!
# الوقفة الثالثة : رحلة الحج تعلمك الكثير .. القناعة والبساطة .. الرضى باليسير .. تمضية الحياة بما وجد .. لم يكن لي واضحا ً كيف يستطيع أناس لا يعرفون بعضهم أن يلتقوا ويجتمعوا بهيئات بسيطة وأحيانا ً رثة .. ولكن الرؤية اتضحت لي بعد الحج .. فالحج يعلمك أن لاوقت إلا للعمل .. وأن المشوار جد ُ قصير مما يعني ألا تقصّره بأي شيء آخر .. . . الحج يعلمك بأن الحياة الحقة هي حياة الروح لا حياة البدن .. وأن الروح هي التي تستحق أن تبحث لها عن السعادة والصفاء .. . . الحج يخبرك بأن الوقت عامل مهم للسعادة والإنجاز .. في خمسة أيام في الحج تؤدي أعمالا ً كثيرة ربما لو لم تحد بزمن لأديتها في أسابيع وربما شهور ..! . . في الحج ..الرحمن يقول لك أنك تستطيع أن تستغل طاقتك وأن الحياة رحلة قصيرة بوقتها عميقة بمعناها (إن أحسنت قيامه) كالحج تماما ً ...! الحج ساعات محدودة سرعان ما انصرمت لكن معانيه تضرب في الناس لها جذورا ً .. اسأل أن يذوق كل حاج أكلها عاجلا ً غير آجل ..
# الوقفة الرابعة :
في أيام ٍ معدودات .. نسيت أحبابي .. نسيت مشاغلي .. دراستي .. عشت عالما ً آخــر .. تجلى فيه الجمال .. نسيت متاعب الدنيا .. منغصات الماضي .. ومخاوف عدة سكنت قلبي .. الحج .. طمأنينة تسكن القلوب المؤمنة .. هدية من الرحمن لمن شفه الألم .. أو تعب من ظلم البشر .. الحج .. شفاء للجروح النازفة .. وياليت العمر كله رحلة في صفاء الحج ..!
# الوقفة الخامسة : رحلة الحج .. صورة مصغرة لرحلة الحياة على ظهر الأرض .. العمر رحلة قصيرة .. بقصر أيام الحج .. الناس في الحياة كالناس في الحج .. مابين مسرف على نفسه ومقتصد ..ومسارع بالخيرات .. النهاية يعرفها كل شخص .. كل حاج يعلم أن الحج أيام معدودة .. كما أن كلنا يعلم أن أنفاسه معدودة .. الفرق .. أن الحج موعظة لمن يملأ قلبه التدبر .. لأن الوقت هو العامل الذي يحدد تعاملك مع الآخرين .. أهدافك .. أعمالك .. بل وحتى هيئتك ...! . . حين كنت على فراشي في منى .. كان الوقت هو ما يحكم كل شيء .. ترى .. لو حرصت على رحلة الحياة وتعاملت معها كما أراد الله لي ولكل مسلم .. لو كان العمر رحلة حج .. هل كنت سأرى غلظة ً من قريب .. أو إساءة ً من حبيب ..؟! لو كان المسلم يرى العمر كما يراه في رحلة حجه .. هل سيكون في القلب سوى الحب والسلام ..؟ . . في الحج .. درس في فن التعامل مع الآخر .. حب الخير والنقاء ..
# الوقفة السادسة :
طلب المثالية مثلب يقع فيه البعض ..
وتصور الملائكية تصور مستحيل في دنيا البشر ..
رحلة الحج ..
تدربك بصورة عملية خلال أيام معدودة على أن الحياة يستحيل أن تكون صوابا ً لا خطأ فيه ..
وأن ثمة مفاجآت في الطريق تستلزم من السائر فيه قدرا ً كبيرا ً من المرونة حتى يصل ..
.
.
قبل الحج عقدت العزم على أن أفعل كذا وأرمي الجمرات بنفسي وأقوم بالسنة الفلانية وهكذا ..
كان عقلي يرفض مثلا ً أن اقرأ لصفة الإفراد في الحج لأني لا أقبل أن أحج إلا متمتعة ...!
وفي موسم الحج القليل في عدد ساعاته حدثت الكثير من المفاجآت ..
بدءا ً من تأخر رحلات حجاج الداخل بسبب تأخر الرؤية الشرعية للهلال ..
مما استدعى تحول النسك لأغلب الحجاج "وأنا من هؤلاء" إلى الإفراد أو القران نظرا ً لفوات وقت التمتع الشرعي ..!
ومن ثم الأمطار الشديدة التي تضررت منها بعض المخيمات في منى ..
مما لخبط سير اليوم الأخير وترتيب خطواته هناك ..
ثم الزحام الشديد على الجمرات وظروف الأمطار وبالتالي التأخر في الرمي ..
وهكــذا ..
في الحج صفعة قوية لمن يعتقد أن الحياة مجرد قوانين بحتة ومعادلات لا تقبل الخرق ..
في الحج تعليم لأدب التيسير ..
وأن الحياة لا تسير وفق التوقعات دائما ً ..
وأن المسلم الحق هو من يوطن نفسه على استقبال الأزمات ويعود روحه على ألا توقفها عثرات الطريق حتى يصل إلى الغاية ..
في الحج دروس عظام ..
وتنبيهات جسام ..
أرجو أن أكون استفدت منها ..وكذلكم أنتم ..!
.
.
إضاءة :
" منذ أسلمت ..تعلمت في أسبوعي الحج مالم أتعلمه في أربعين سنة "
مالكوم إكس
# الوقفة السابعة :
الحج رحلة حقيقية مع الصبر .. فالحج ليس مشاعر روحانية لا تعترضها الأكدار .. أو صفحة نقية لاتنغص صفائها مشاكل الحياة ..! في الحج .. سنرى اشتداد الجدال لتأخر وصول الحافلات للمشاعر .. وسنعيش ساعات من القلق حتى لا تغيب الشمس ونحن على أرض منى ..! وسنعاني من قلة ذوق بعض المسلمين الذين يعترضون الطرقات .. أو الذين لايخافون من مغبة زحام أخوان لهم في الله ! في الحج ..
قد نعيش ساعات متوترة حتى نصل لعرفات الخير ونشم جزيئات الهواء ونحن على أرضها.. في الحج سلسة من الضغوط .. ماكان الله ليبتلي بها أولئك الذين حفتهم المهالك حتى يصلوا لبيت الله ..في معاناة جسيمة وشهور عديدة .. في حجنا هذا .. درس في اجتراع الصبر .. ليس الصبر على خوف الطريق ..أو نقص الغذاء ..أو قلة اللباس .. لا ..بل الصبر على أذى الناس وعقبات الطريق المفاجئة .. هذا النوع من الصبر هو مايحتاجه مسلم اليوم في وقت شبعت فيه الأجساد وجاعت فيه الأرواح .. فما أحكم المولى جل جلاله .. شرع لنا هذا المنسك المليء بالدروس والعبر .. جعلني الله وإياكم من المعتبرين ..
# الوقفة الثامنة : الناس في الحج تتلبسهم وشائج وراوبط عجيبة ..! في مناسبات الحياة تتلى الألقاب وتتوسط الكنى أو المسميات أهمية لدى الناس .. لكن في الحج الأمر مختلف .. الحج يعلمك أن لا يهم اسم من هو بجانبك .. ولا يهم من أين بلد هو .. لايهم عمره ..أو عمله ..أو هيئته ..أو تخصصه ..أو حتى درجته العلمية .. كلاكما سائر في طريق واحد .. الطريق إلى الله .. . . تبتسم في وجهه .. تقدم له مايشربه .. تغطيه إن وجدته نائما ً .. وتكتشف بعد مرور أيام الحج انك لا تعرف اسمه .. ولا أين يسكن ..! لكنك قطعا ً عرفت قلبه .. رأيته في حواره مع الله .. في ابتهالاته .. رأيت اشفاقه في يوم عرفة .. وفرحته في يوم العيد .. رأيت أنه مثلك تماما ً .. له آلام وأحلام ..أبناء وأهل .. اسم وكنية ..وظيفة أو مركز .. ولكنه تركها جميعا ً هناك .. في بلده .. هو مثلك الآن .. نسي من يكون وماذا يريد .. وهو مثلك الآن .. في أنه فهم الحياة .. وكم هي صغيرة حقيرة .. هو مثلك لأنه يسجد وهو يدعو بالجنة .. وينام وهو يدعو بها .. وأنت مثله .. وحدتكما الغاية .. فكليكما فهم الحياة كرحلة من خلال الحج ..
# الوقفة التاسعة :
في الحج .. تصغر ملذات الدنيا ..
تترآءى لك الحياة من عدسة الحقيقة الصافية ..
في سجودك ..
تسبيحك ..
وحين تردد التلبية ..
تتجرد روحك من كل شيء ..
من كل أمل سوى الجنة ورضا الله ..
وتنسى كل هم سوى هم ذنوبك ..
في الحج ..
تصبح الحياة بعيدة عن مغريات الدنيا ..
أو ضغوط الآلام ..
تتضح الأهداف ..
ولذا ...
تهون الدنيا في عيني الحاج ..
الله أكبر من كل هم ..
الله أكبر من كل ألم ..
الله أكبر من كل خوف ..
الله أكبر تخرج بزفراتها أكدار الدنيا ..
خلت ُ أن عيناي في منى ابدلتا ..
وأن الكدر الذي يعلو بصيرتي أزاحته الحقيقة..
في منى لا يهمك أن تكون بلباس جميل ..
لأنك أدركت أن لا قيمة للباس إن بليت النفس ..
ولا جمال للثوب إن خربت الروح ...!
أرايتم كيف هي الحقيقة التي نتجاهلها هنا ..
الحج ليس تنسكا ً وانقطاعا ً ..
هو قرصة لأذن المنغمسين في بحر الحياة ..
أن ثمة رؤيا تحتاجكم وتحتاجونها ..
وياليت قومي يعلمون ...!
# الوقفة العاشرة : الآخرة .. الصراط والميزان .. تطاير الصحف .. حشر الجمع المهول على الأرض .. صور تتراءى لك في الحج .. على صعيد منى .. وعلى أرض عرفات .. يتراءى لك يوم الحشر .. بهوله ..وبأرض ٍ صغيرة تحمل مئات الألوف من البشر .. من كل أرض اجتمعوا على صعيد واحد .. فلا يلبث أن يردد اللسان .. رباه ارحمني في يوم ٍ عظيم .. رباه ثبت حجتي يوم ألقاك .. رباه لا تخزني يوم يبعثون .. . . هول الموقف في يوم عرفة .. وذاك الصمت المهيب في ساعات المغيب فيه ذكرى لأصحاب القلوب النيرة .. ذكرى تقرع القلوب أن تبصري .. هناك يوم قادم ليس هذا إلا نموذجا ً مصغرا ً لهوله .. في الحج لفتة تذكّـر الحاج بهول المطلع .. وبأرض المحشر سيما مع اشتداد الزحام .. . . وفي الحج تذكرة بالموت .. الذي يستوي فيه الكبير والصغير .. والذكر والأنثى .. والغني والفقير .. وفيه درس ٌ عظيم في المساواة والعدل .. فيغدوا جمع الحجيج كأسنان المشط الواحد .. الكل يطوف ببيت الله .. الكل يرمي الجمار .. الكل ..يسعى ويحلق رأسه أو يقصر .. ليس للشريف أن يتخطى ركنا ..أو يفعل محظورا .. الكل أمام الله برداء أبيض .. وكأنما هو كفن الميت .. لا تميز .. لا تفاخر .. لا ترف .. هي الدنيا ..يكفيك منها خرقة بالية .. فالحياة فيها للروح لا للجسد الفاني ..!
# الوقفة الأخيرة : الأرواح في الحج تسمو .. لأنها تيقنت الحقيقة .. تعاملات الحاج يملؤها الصفاء .. ويغلفها النقاء .. ابتسامة الود ترتسم على وجوه الحجاج .. كيف لا .. وقد هانت الدنيا في أعينهم .. أبصروا الباقية فملأت أراوحهم بحب مايقربهم لها .. لو كنا نرى الدنيا كما نراها في رحلة الحج لما وقع بين الأحبة كدر .. وما نزل بينهم شر .. كيف وهم يبحثون عن رضا الله في كل بسمة .. يلتمسون رحمته في رحمتهم لبعضهم .. تجود أنفسهم بخدمة الغير لأنهم يطبقون "خير الناس أنفعهم للناس" .. وحين ينطق أحدهم "أحبك في الله" .. تحس بها تنحت عروق قلبك صدقا ً .. لأنك تراها قبل نطقها .. تراها في يد تمسح جبينك خوفا ً من اصابتك بالحمى .. تراها في نداء يوقظك لقيام الليل رغبة ً لك بأعالي الفردوس .. تراها في دمعة ترافق دعوة لك في جوف الليل .. وتراها في قلب مشفق عليك من الوصب والتعب .. . . يالله كم هي الأنفس تعانق السماء طيبا ً في رحلة الحج .. كم تعطر الأجواء بعبير الإسلام الحق .. كم تكون قريبة ً من آي الله ورحماته .. كم تكتسب من عظات الأخلاق ودروس التربية .. فتبذل حين تبذل لله .. لا لجاه ولا لاسم ولا لمكانة ولا لشهوات الدنيا ورغباتها .. تبذل لأنها تريد الله .. وتحب ماعنده .. تبذل بصدق المؤمن .. لذا تكافئ بحلاوة المؤمن الحق .. ولو جعلت الأنفس الحج رحلة أبدية لعاشت نعيم الدنيا قبل الآخرة .. . . في الحج .. آلاف الدروس .. وملايين العظات .. في الحج .. مئات الوقفات .. هنا وهناك .. لا تحتاج إلا للقلب المؤمن .. . .
"اسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من المقبولين .. وأن نكون ممن أبصر عظات الحج فاستفاد وأفاد .. وعمل وطبق فكانت حياته رحلة حج .. رحلة عبادة وطاعة لا يوقفها شيء حتى تصل لجنات الفردوس .. اللهم آمين " وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،