سدرة المنتهى من عالم الغيب، وعالم الغيب لا نعلمه إلا من كتاب الله أو من نبي الله، لقول الله جلَّ في علاه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (26، 27الجن)، لابد أن يكون رسولاً حتى يُبلغنا بهذا الأمر، والرسول علَّمه الله وقد قال لنا في شأنه في كتاب الله: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (113النساء).
فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى سدرة المنتهى على قدر ما تتحمله عقولنا، لأن كل ما في عالم الملكوت لا تتحمله العقول الأرضية الكونية التي في أجسامنا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حاول تقريب الحقيقة على قدرنا فقال: (رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، يَخْرُجُ مِنْ سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَانِ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ، فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ، فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ)[1]. شجرة عظيمة ثمارها مثل النبق، وحجمه مثل قلال (هَجَر) - وهي مدينة ناحية عُمان جنوب الجزيرة العربية، وكانت تشتهر بصناعة القلال الضخمة. جعلوها نوراً لا يستطيع الإنسان تحمُّله.
وهذه الشجرة سميت بشجرة سدرة المنتهى لأنها نهاية صعود الملائكة، لا يتجاوزونها قدر أنملة، كما سمعنا في حديث الأمين جبريل، يتلقون عندها الأوامر الإلهية، ثم يهبطون لتنفيذها بأمر ربِّ البرية عزَّ وجلَّ.
الملائكة الكبار في رتبة وزير، وكل ملَك منهم معه عدد لا يُحصى من الملائكة يأمرهم فيطيعون ويُنفذون أمره، فعزرائيل مَلك الموت ليس هو وحده الذي يتولى موت الناس جميعاً، لأن الله عزَّ وجلَّ يقول في القرآن: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ) (32النحل)، هؤلاء جماعة من الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين الطيبين، وهناك جماعة أخرى: (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) (50الأنفال) وهؤلاء يقبضون أرواح الكافرين والمشركين والعصاة والمذنبين والعياذ بالله عزَّ وجلَّ.
إذاً هناك ملائكة كثيرون يقومون بهذا العمل، لكن أميرهم وكبيرهم وقائدهم والذي يوزع عليهم العمل هو عزرائيل عليه السلام. وكذلك ملائكة الأرزاق أميرهم ميكائيل، وكذلك ملائكة الصُّور أميرهم اسرافيل، والملائكة الآخرون الذين يتولون إلهام المؤمنين، كما ورد فى الأثر: (على قلب كلِّ مؤمن ملكٌ يلهمه)[2].
ملائكة الإلهام هؤلاء الذي يُشرف عليهم أمين الوحي جبريل عليه السلام، هؤلاء الملائكة يتلقون التعليمات من الله ثم ينفذونها، ويتلقون هذه التعليمات من موضع سدرة المنتهى، تلوح لهم في اللوح المحفوظ فينقلونها ثم يقومون بتنفيذها كما صدر الأمر الإلهي، وأبرم القضاء الرباني بتنفيذها.
فسدرة المنتهى هي نهاية صعود الملائكة، وهي نهاية علوم الخلائق، فلا ينبغي لأحد مهما كان علمه أن يتحدث عما وراءها لأن هذا خصَّ الله به نبيه وقال فيه: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (10النجم) ولم يبين ذلك، ولم يوضح ذلك، فعلم الجميع أن هذا سرٌّ من الله عزَّ وجلَّ لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
وهي الموضع الذي تنتهي إليه أعمال العباد، فإن أعمال الموفقين ترتفع وتُفتح لها أبواب السماء وتصل إلى موضع تحت ظل العرش عند سدرة المنتهى وتظل هناك تُذكِّر بصاحبها وتكرر ما قاله صاحبها ويُحسب ذلك كله في ميزان حسناته إلى يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِي تَذْكُرُونَ مِنْ جَلالِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ تَسْبِيحَةٍ وَتَكْبِيرَةٍ وَتَهْلِيلَةٍ، يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ لَهُنَّ دَوِيُّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذْكَرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَفَلا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَلا يَزَالُ مِنْهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ يَذْكُرُهُ بِهِ)[3].
لو قلت بعد الصلاة: (سبحان الله) بإخلاص وصدق تُفتَّح لها أبواب السماء إلى أن تصل إلى هذا المدار وهذا المجال، وتظل تقول بلسانك: (سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله ...) إلى يوم القيامة، ويوضع ذلك كله في ميزان حسناتك، وانظر ما لك من الأجر والثواب عند الله.
وكذلك الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، وَأَسْبَغَ لَهَا وُضُوءَهَا، وَأَتَمَّ لَهَا قِيَامَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا خَرَجَتْ وَهِيَ بَيْضَاءُ مُسْفِرَةٌ، تَقُولُ: حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَمَنْ صَلَّى الصَّلاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا فَلَمْ يُسْبِغْ لَهَا وُضُوءَهَا، وَلَمْ يُتِمَّ لَهَا خُشُوعَهَا وَلا رُكُوعَهَا وَلا سُجُودَهَا خَرَجَتْ وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، تَقُولُ: ضَيَّعَكَ اللَّهِ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ لُفَّتْ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، ثُمَّ ضُرِبَ بِهَا وَجْهُهُ)[4].
فالأعمال التي يتقبلها الله بقبول حسن تكون في هذا الموضع العظيم عند سدرة المنتهى، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل دواوين أعمالنا مملوءة بالأعمال المقبولة من ربنا عزَّ وجلَّ، وأن يجعلها تُذكِّر بنا إلى يوم القيامة ليزيد رصيدنا عنده سبحانه وتعالى.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم |
|
|
|