السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حينما تتحسس أنامله القلم لمّا تضطرم الأفكار
ويشتد عويل الإبداع بداخله ،
فلا خلاص للكاتب سوى الورقة يلقي على صهوة بياضها
بثقل أحاسيسه ومشاعره المتأججة بساحة العقل الباطن،
وكذا ما يجوب في ذاكرته من صور وخيالات محفوفة برصيد لغوي ثري به
يسهل أن يطوق الكلمات بأسلوب راق
يكتنف بين ثناياه روعة السبك ومغنطيس جذب لذائقة القراء،
وهذا بدوره يتطلب الموهبة الحقيقية لا المزيفة،
والإطلاع الواسع على الثقافات الإنسانية ،
وكذا الإنغماس في غمرة المجتمع، واقتناص مشاكله
وإحاطتها بإطار فني تحت مجهر السرد القصصي ،أو الأدبي بصفة عامة .
وهنا يلج بنا التفكير إلى فيافي التساؤل
عن السر الذي يجبر الكاتب إلى أن يلقي بنفسه في جحيم الكتابة ،
والغوص قسرا في بحار المتاعب ثم مالذي سيستخلصه من نتائج ؟
هي الموهبة المندسة في أعماقه والجارية مجرى الروح في دمائه ،
والمتسللة عبر الشرايين،
وحدها من يزرعه نخلة شامخة ذات رطب وظلال في زمن الجدب
وكلماته ماء رقراقا تنتعش لإنسكاباته الأنفس وتلذ لعذوبته القلوب.
ولكن فرضا لو الكاتب بعد أن يرفع لافتات
الإتمام لقصة ما ،أو رواية هدّت مضجعه،
وسرقت من عمره على إيقاعات عقارب الزمن أياما وشهورا..
وبعد ذلك يفاجأ أن القارئ لم يتمكن من تحليل شيفرة الرسالة،
وتأرجحت به طيوف التعقيد ما بين مزالق ومنعطفات رمادية
أين سيجثم على صخرة الحيرة دون حراك،
واتخاذ أي قرار، بل وربما الشعور بالإمتعاض ...
فهل العيب هنا يكمن في مسالك خاطئة شيد تها مخيلة الكاتب
وممرات ضبابية للأفكار، أم في القارئ ،
والذي غالبا مايكون مدركا ومتمكنا من فهم صنوف الكتابات؟
أعتقد أن سبب اضمحلال الكلمات في دجنة السراب
دون بلوغ الهدف المنشود
وهو "الإمتاع الوجداني والفكري وكذا تثقيف القارئ
وجعله ملما بأحداث مجتمعه ،وبالتالي المساهمة في تطويره سلوكيا وحضاريا"،
يعود وبكل وضوح إلى الكاتب نفسه،
وهذا دليل فشل في التحكم بزمام الأمور،
ربما نتاج صراعات نفسية أو نقص في ثقافة هذا الأخير
وعدم استطاعته بلوغ قمة التفكير التنويري ،
ومعاينة مشاكل المجتمع سواء أمن قريب أوبعيد.
أي نعم للكاتب أن يكتب وفق ما تمليه عليه قريحته
بحيث أن الأفكار في لحظات انبعاثها
تشبه السيل الفجائي المنهمر الذي لامناص من استرداده
وتهذيبه في لحظات الإلهام الثمينة ،
لكن ما هو ذنب المتلقي لكي يبتلى بمعان أو رموز
يتعسر على فكره العادي أن يبتلع مقاصدها،
وقد غلّفت بثوب الغموض؟
إن دور الكاتب الحقيقي ، هو الإسهام في بناء المجتمع ،
ونشر الوعي بين أفراده بطريقة إبداعية، ولغة جذابة ممتعة تأسر النفوس
وتدفع القارئ إلى طلب المزيد من القراءات،
والبحث المتواصل عن جديد ا لإصدارت.
أي أن انزواء الكاتب في برجه العاجي،
والكتابة فقط لإستعراض العضلات الفكرية ،
سيقطع حبل التواصل بينه وبين القارئ،
وبالتالي تهميش ماتجود به قريحته ،من إبداعات ،
والتي سيكون مآلها في رفوف المكتبات.
هل كل ما لايفهمه المتلقي يسمى غموضا ؟
لايجب أن ترتكز نظرتنا إلى جدار اللاعقلانية ،
فنعتقد أن الذي تعسرعلى الفهم يعتبر غموضا ،
فنتهم الكاتب بالتقصير ،ونصعقه بزفرات الملامة .
إنما وجب رعاية سلسلة حقائق تُبرز باستمرارية توالد فحواها
ماينم على أن جهل المتلقي أحيانا وتقاعسه عن توسيع خبراته المعرفية ،
قد يودي به إلى الإبحار العشوائي بين أمواج السطور،
فيغرق في عتمة الحيرة بعدما تتساقط لبنات تركيزه .
لأن تدريب الخلايا الدماغية على اصطياد حمائم الفهم ،
يتطلب مجهودا غير يسير ،واكتسابا ثقيلا يملأ ثغرات الفضول بشهد المعارف .
فقد يكون الكاتب مبدعا متمكنا ،
وممسكا بزمام الحروف النابضة ،بيد أن المتلقي مجرد قارئ بسيط ،
محدود الخبرة والتفكير ،
ولا تحتوي بنوك عقله على رصيد لغوي
يمكنه من الاستحواذ على تأشيرة التجوال إلى أرض المدارك .
إذن ،وجب علينا أن نضع نص الكاتب
تحت المجهر التثقيفي بدرجة التوسييط ،
فلاتضييق على حرية الحروف فتهوي إلى منحدر السطحية ،
ولا توسيعا ،فتتضخم مدلولاتها وتعلوا فوق غيوم الخيال .
وبعد ذلك لنا أن نحكم على غموض النص من عدمه
أي بمعنى تبسيطي واضح :
ليس كل ما لايفهم ينعت بالغموض ،
فهذا مرجعه إلى ثقافة المتلقي أيضا .
وعندما نقول مثقفا ،فهذا يعني أن يكون ملما فكره بألوان من المعارف ،
ولاتنحصر فطنته في حيَز ضيق ،
فليست قوالب رؤيته للأشياء هي المقاس المتفرد ،
لكي يحكم على سطور هذا أوذاك من الكتَاب
ويقذف بها في سجن الإلغاء بتهمة الغموض .
فالغموض هو تلك التركيبة العجيبة ،
والتي إن لبستها الحروف بدت مرتعشة
لاتعرف صوب أي وجهة تسري بالقارئ
لكي تصل به إلى فوهة نورانية تنم عن المقصود .
،وهو التوهان الذي لايعرف له بداية من نهاية ،
والذي لن يكتشف القارئ في مغاراته الضبابية أثرا لرسالة أومتعة ،
بل إن تواصل المخيلة بهكذا نصوص ،
سيصيبها بفيروسات الملل المقيت.
كما هو الحال في بعض الخواطر والأشعار النثرية ،
والقصص التي تعتمد على الرمزية المفرطة.
فبالأسلوب الجميل، واللغة السهلة الرصينة ،والمفردات العذبة ،
ورغم توالي السنوات لاتزال بصماتهم هؤلاء العمالقة ،
طه حسين ،نجيب محفوظ ،أحمد رضا حوحو،
توفيق الحكيم ،عبد الحميد ابن باديس ،البشير الإبراهيمي، زهور ونيسي ،
خالدة في سجلات الأدب العربي.
منقول لروعته |
|
|
|