الماضي وقع وانتهى وأصبحنا متأكدين من حدوثه.. أما المستقبل فلم يحضر بعد ومازلنا نملك القدرة على تشكيله.. ولكن ماذا عن الحاضر؟.. كم يدوم ومتى يبدأ وينتهي بالضبط؟ الأجوبة تتراوح بين (الآن) وحتى انتهاء الحدث المقصود (كمباراة في كرة القدم).. يعتمد على موقعك من الحدث بدليل أنك تقرأ هذا المقال الآن في حين أنني كتبته قبل ثلاثة أيام.
حين تقول لصديقك: لا تحاول إقناعي بأمانة هذا الرجل، يبدأ لسانك بنطق الجملة (بعد) انتهاء دماغك من بنائها.. وحين تسمعها من غيرك (في الحاضر) يغيب عنك أن الموقف تشكل لدى قائلها في الماضي (عن أمانة ذلك الرجل)..
ورغم ثراء لغتنا العربية مازالت صيغ الأزمنة فيها مطاطة وتركز فقط على الماضي والحاضر والمستقبل.. فالتقسيمات الزمنية الدقيقة لم تكن تعني شيئا لأعرابي يعيش في الصحراء ولا يملك ساعة سويسرية (وحتى بعد امتلاكنا ساعاتنا السويسرية مازلنا نقول: سأحضر في الموعد المحدد بين الرابعة.. والخامسة مساء)!!
وهذا بالمناسبة حال معظم اللغات القديمة (كاللاتينية والإغريقية والسريانية) حين كانت الحياة أكثر استرخاء والزمن يمر بطيئا.. غير أن صيغ الأزمنة تطورت في اللغات الحديثة بحيث أصبح معظمها يملك اثني عشر فرعا هي:
الحاضر والماضي والمستقبل البسيط..
الحاضر والماضي والمستقبل التام..
الحاضر والماضي والمستقبل الستمر..
الحاضر والماضي والمستقبل المستمر التام..
.. ولاحظ؛ كل هذا من حيث اللغة وشعورنا بتقسيمات الزمن فقط..
أما من حيث الواقع الفيزيائي الفعلي؛ فتقل مساحة الحاضر (وتتقلص لدرجة التلاشي) كلما تطور قياسنا للزمن..
دعني أسألك أولاً: هل تعتقد أن "الحاضر" يساوي دقيقة أم ثانية واحدة فقط!؟
وفي حال قلنا إنه ثانية واحدة، كيف تصف أحداثا داخل الذرة تحدث كل ملي ثانية (واحد على 1000 جزء من الثانية).. كيف تفسر حاجة علماء الطبيعة لتجاوز الملي ثانية واستخدام الميكروثانية (لقياس طرفة العين مثلا التي تساوي 350 ميكروثانية، أو ضوء الفلاش الذي يساوي 100 ميكروثانية)!!
وبعد الميكروثانية ظهرت النانوثانية التي تساوي واحدا على مليار من الثانية..
وبعد النانوثانية ظهرت الفيمتوثانية التي تساوي مليون مليار جزء من الثانية (واكتشفها العالم المصري أحمد زويل أثناء تصوير تفاعلات كيميائية تحدث بهذه السرعة الخارقة)!!
ومجرد اكتشاف هذه الأحداث الدقيقة يؤكد أن "الحاضر" يتقلص بتطور الاكتشافات والمعارف العلمية..
.. من أجل هذا كله أعتقد أن "لحاضر" الذي نعنيه في كلامنا يختلف عن الحاضر الموجود في أعماق الذرة وحركة الجزيئات.. أعتقد أن حاضرنا البشري مجرد تعبير مجازي يحدده إحساسنا النسبي بالزمن.. أما الحاضر الفيزيائي فيظل ينقسم إلى ما لا نهاية وأتوقع مستقبلا تقلصه لعشرات المليارات من الفيمتوثانية (ومع هذا تظل عمرا طويلا بالنسبة لجزيئات مازلنا نجهل وجودها)!! |
|
|
|