اقتربت الساعة التوبة بداية حياة، ونهاية حياة، بداية مع الهداية، ونهاية مع الغواية، التوبة منَّة وفضل من الله يمنَّ بها على من يشاء من عباده فهو التواب الرحيم، وهي امتحان للتائبين ليُعرف الصادقون والكاذبون. هي ميلاد جديد، وانطلاقة إلى عهد مديد، إنها حياة شعارها "الحياة مع الله". اقتربت الساعة فهل من عودة إلى الله، وحان وقت الرحيل فهل من أوبة، وطغت الذنوب فهل من توبة، فإلى الله المشتكى ألا أيـها الناسـي لـيوم رحـيله أراك عـن الموت المفـرق لاهــي ولا تـرعوي بالظاعنـين إلى البلى وقد تركـوا الدنـيا جميعاً كما هـي ولم يخـرجوا إلا بقطـن وخـرقة وما عمروا من مـنزل ظـل خـاوي وهم في بطون الأرض صرعى جفاهم صديــق وخـال كان قبل موافـي وأنت غداً أو بعده فـي جوارهـم وحيـداً فريداً فــي المقابـر ثاوي جفـاك الذي قد كنت ترجو وداده ولم تـر إنسـاناً بعهــدك وافـي فكـن مســتعداً للحمـام فإنـه قريب ودع عنـك المـنى والأماني عن حفص بن سليمان قال: "دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا، فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، قال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه"1، ودخلوا على بعض الصالحين فقلبوا أبصارهم في بيته فقالوا له: "إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل، أمرتحل؟، فقال: لا، أطرد طرداً"2، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"3، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: ((ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها))"4. أخي: أنت معنيّ بالرحيل على كل حال، أيامك تسوقك إليه، وخطواتك تقبل بك عليه، وأنت في الحياة مجبور على العبور، وخاضع لموت مقدور. موتك فاصل بين حياة وحياة، وليس هو نهاية المطاف، بل هو نقلة تسير بك إلى عالم جديد، عالم البرزخ بما فيه من هول القبر وسؤاله، وهول البعث وأحواله، وطول الحساب وجلاله: {أَفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثاً وَأنكُمْ إلَينْاَ لا تُرْجَعُونَ}(المؤمنون:115) والله لو كـانت الدنيـا بأجمعهـا تُبقي علينـا ويأتي رزقها رغـداً ما كان من حق حـرٍ أن يـذل لها فكيـف وهي متاع يضمحل غدا أخي: الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة، ما أحسن قلق التواب، وما أحلى قدوم الغياب، وما أجمل وقوفهم بالباب. والبدار البدار إلى دار الأبرار، والمسارعة في الخيرات إلى حياة القرار: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(آل عمران:133)، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(الحديد:21). فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، يا من تُعد عليه أنفاسه: استدركها، يا من ستفوت أيامه أدركها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم برقم (223). فيا من أقعده الحرمان، ويا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح، كم صلاةٍ تركتها، ونظرة أصبتها، وحقوق أضعتها، ومناهي أتيتها، وشرور نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضر حال نزع روحه؟ حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه، وتضرب شماله ويمينه {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(آل عمران:182). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))5،فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دارٌ إلا الجنة أو النار. يا من تمرّ عليه سنة بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِِّنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك؟ ولأي عام ادخرت أوبتك؟ إلى عام قابل، وحول حائل، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فبادر التوبة، واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العدد، وفرَّ من الذنب فرارك من الأسد، فقد أزف الرحيل، وقرب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي". عبدَ الله: استدرك من العمر ذاهباً، ودع اللهو جانباً، وقم في الدجى نادباً، وقف على الباب تائباً، بلسان ذاكر، وجفن ساهر، ودمع قاطر فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم برقم (2759)، فأحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وبما بقي. نسأل الله العلي الأعلى، وفاطر الأرض والسماء أن يرزقنا وإياكم حسن القول وحسن العمل، وأن يختم أعمالنا وأعمالكم بالخير، وأن يجعلنا من عباده الموفقين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. .................................. 1شعب الإيمان برقم (10651). 2 جامع العلوم والحكم (1/380). 3 حلية الأولياء (5/292). 4 رواه الترمذي برقم (2377) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5668). 5 مستدرك الحاكم (7846)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1077). |
|
|
|