رمضان وبوصلة هوية الأمة
يسري المصري
لا شك أن ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها يتحدد بمدى
هويتها وفكرها وثوابتها وأصولها وجهادها في تثبيت أركانها،
ثم ما تقدمه من رسالة للآخرين تعبر عن مكنونها الفكري
والحضاري والتاريخي بين الأمم.
ولما كان شهر # رمضان شهر خير وعبادة واحتفاء خاص
من قبل الأمة المحمّدية عبر تعدد المشاعر وانتشار الأجواء
الرمضانية التعبدية، وكل بلد من أمتنا له مذاق رمضاني
خاص متعدد، لكنه إجمالاً يعبر عن هوية الأمة،
شاء من شاء وأبى من أبى، فأيّ متابع يكفيه فقط
أن يرى الأجواء في رمضان ليحكم عن هويتها.
فالصحوة الإيمانية حتى لو كانت لحظية أو مؤقتة بميقات،
فإنها وبلا شك ترجمة لحالة رجوع جماعي للهوية،
وطعنة قوية ضد كل محاولات العلمنة والتحرر المكذوب ،
وفي نفس الوقت ظهور جيوش من الشباب فطن أن المحراب والعودة إليه،
والتمسك بكتاب الله، وغض البصر، وصلة الأرحام،
وكل هذه النوافل والطاعات - هي الأصل وما دونه -
عرض زائل، حتى لو طال بريقه.
إن تاريخ هوية الأمة بدأ يوم أن وقف النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم -
في بطحاء مكة ونادى على القبائل وبلغهم دعوة ربه،
ثم لم يلن لما لاقاه من كبر وعناد وأعراض وتآمر مركب على الدعوة،
حتى جاءت غزوة بدر في رمضان في السنة الثانية من الهجرة،
فعمقت هذه الهوية ومسار الدولة الناشئة في وجودها وسعيها؛
لنيل حقوقها من الظالمين، وأيضاً توظيف لطاقات أبنائها،
والاستغلال الأمثل لطاقاتهم، وتدريب الأفراد على الشدة
والبطولة والتضحية؛ من أجل الدين والدعوة، فكان النصر المبين.
وهنا دروس وعبر على كل صاحب فكرة أن يعظمها ويعي مراميها،
ثم يطبقها على نفسه وفي محيطه الدعوي.
إن الهوية الحقيقية للأمة اليوم - وبوضوح شديد - تكمن في مساجدها،
وشبابها الراكع، وشيوخها المتعلقون ببيوت الله، وأشبالها المتراصين
في صلوات القيام والفجر في رمضان الخير،
وأيضاً في كل الأبطال الذين يقبعون في سجون الطغاة،
فهم الرجال الذين فطنوا حقيقة الحياة، وعظمة رفع راية الحق،
والسعي لاستعادة الأمة وهويتها عبر كتاب ربها وتحكيم شرعه،
فكان الكيد لهم، لكن يقيناً لن ينالوا من عزائمهم أو صمودهم،
ولن يجعل الله للظالمين على المؤمنين سبيلاً.
وكذلك فإن الهوية الحضارية للأمة تتجلى في مواقف النساء
اللاتي يرفعن الحجر في وجوه المغتصبين،
ويقدمن الدعم لشباب المقاومة في غزة،
ويقفن بالساعات ثابتات معتصمات في ميادين الحرية ومعاقل الشرف،
بلا تنازل عن القضية أو عرضها في سوق النخاسة!
إن الهوية هي القوة التي تواجه الصهاينة في غزة في هذا الشهر،
وسط موجة من التصعيد ومحاولات تركيع الأمة،
وقتل هويتها، واغتيال مسجدها الأقصى، وتحويل القدس لملك خاص بالصهاينة ،
في الوقت الذي يتم حصار القطاع وتكبيل يد المقاومة في الضفة
بتواطؤ خسيس مع أعداء الأمة، وسعياً لطمس هويتها،
وقبولاً بمخططات غربية مقابل حفنة من الامتيازات
التى لا تستوفي حقوق المسلمين في مدينتهم المقدسة،
ولا تقلل من آهات الآلاف من الأسرى،
ولا تساوي تضحيات هذا الشعب العظيم!
إن غزة - وبوضوح شديد - تحدد هوية الأمة،
ورمضان يؤكد هذه الهوية، وحق العودة يواصل هذه الهوية
التي نفخر بها جميعاً، فليس هناك أحب إلى المرء من الدين والوطن،
وما أعظم أن يلقى المرء ربه وهو رافع للحق راية
عاش لها وضحى في سبيلها بالغالي والنفيس!
إن حجم التآمر المركب، والكيد على هذه الأمة،
والسعي لانسلاخها من هويتها، وجعل شبابها جسماً لا روح فيه
- يجري على قدم وساق - ، وإن كل ما نراه يهدف لهذا الأمر.
فالعدو يدرك أن قوة هوية الأمة تكمن في شبابها ،
وقديماً قالوا: إذا أردت أن تعرف مستقبل أمة فانظر لواقع شبابها،
ونحن - والحمد لله، وبرغم كل شيء -
نرى أن المستقبل لهذا الدين، شاء من شاء وأبى من أبى،
فنحن نصدق كلام ربنا، ونؤمن يقيناً بأن نصر الدين أمر مقدر منذ الأزل،
واليوم نرى شباب الأمة يضحي؛ من أجل عزتها واستعادة
هويتها في أطهر بقاع بيت المقدس وأكناف بيت المقدس
وفي شهر رمضان المعظم.
كل هذا يتم بلا كلل أو ملل، وربما القادم أشد إفلاساً للظالمين،
وانتصاراً للصابرين المحتسبين الذين يقدمون مصلحة أمتهم
على رغباتهم، ويرفضون كل مزايا الباطل ومحاولات الاستيعاب الفاشلة؛
من أجل قدسية القضية ومكانتها.
إن رمضان طاقة نور وهداية ومسار هوية عبر الأزمنة والتاريخ؛
فمعظم الانتصارات كانت فيه؛ لذلك فهو شهر محوري
ذو تأثير قوي يدفع بالمرء للطاعات دفعاً،
فضلاً عن المزايا الربانية والرضا الإلهي على عباده في هذا الشهر.
ختاماً:
إن هوية الأمة في طاعتها لربها والعودة إليه،
وليس هناك فرصة كرمضان، فهو سوق خير وطاعة أوشك أن ينفض؛
لتعلن النتائج في يوم الفطر بأنه ربح من ربح وخسر من خسر!
ولا أرى خسراناً أكثر من خسران الفرد لفكرته وخروجه
من رحمة ربه نتيجة غفلته وهوى نفسه الأمارة بالسوء،
كذلك أيضاً الفخر كل الفخر لمن جعل رمضان سلماً؛
لتثبيت هوية قلبه وفق محراب ربه؛ ليهنأ ويتمتع بالقبول من ربه،
ويصفع كل عدو متآمر على أمته وهويته،
معلناً أن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة،
وأنها قد تمرض، لكن لا ولن تموت، وأن بوصلة
هويتها محددة ومعروفة، مهما حاولت قوى الباطل
تغيير معالمها أو النيل من عزيمة شباب هذه الأمة،
وتجريف عقولهم، وتزييف أفكارهم، ومسخ هويتهم،
وأن النصر والتمكين لهذه الأمة قادم لا محالة
"يرونه بعيداً ونراه قريباً".
[/FONT]