سَعة الصَّدْر على الناس، والتغاضي عن هَفواتهم، والعفو عنهم، وعدم الحِقْد عليهم من صفات المؤمنين الذين: ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحشر: 10].
كما أن سَعَة الصَّدْر وسلامة القلب، ونزع فتيل الحسد والعداوة، والغِلِّ والضَّغينة منه، من صفات أهل الجنة؛ قال تعالى: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47]، فتبقى قلوبُهم سالِمةً من كل دَغَلٍ وحسدٍ، متصافيةً متحابَّةً، متجانسةً متآخيةً.
ومن الحقائق التي لا يختلف عليها اثنان أن سَعة الصَّدْر منحةٌ إلهية، ورحمةٌ ربَّانية، وعنوان على رجاحة العقل، ودليل على كمال المُروءة والرجولة، فلا يَغضب صاحبها لأتفه الأسباب، ولا يُعكِّر صفوَ حياته أدنى شيءٍ، ولا يجعل من "الحبَّة قُبَّةً" - كما يقول المثل الشعبي - ولا يحمل الكرة الأرضية على رأسه في كل شيءٍ يَحدُث، أو كل كلام يُقال، بل يكون كما قال الشاعر:
كُنْ كالنَّخِيل عن الأحْقادِ مُرْتَفِعًا *** يُرْمَى بصَخْرٍ فيُعْطي أطْيَبَ الثَّمَرِ
كما أن صاحب الصَّدر الواسع لا ينتقم لنفسه من الآخرين، بل يُقابل الإساءة بالإحسان، وسُوءَ تصرُّف الآخرين بعقلانية وحِكمةٍ، وتعقُّل وسَعةِ أُفقٍ، ويدفع بالتي هي أحسن، ويترفَّع عن حضيض المجادلات العقيمة، وسفاسفِ الأمور بعفَّة اللسان، وطَيِّبِ الكلم، وكريم الأخلاق، ويتغاضى عن هفوات الآخرين وزَلَّاتهم، ويَغُضُّ الطَّرْف عن أخطائهم، ويَقبَلُ أعذارَهم، ويَصِل الرَّحِم وإن قَطَعَه الآخرون، ويُحْسِن وإن أساءَ إليه الآخرون متمثِّلًا بقول المقنع الكندي:
ولا أَحْمِلُ الحِقْدَ القديمَ عليهمُ *** وليسَ رئيسُ القومِ مَنْ يَحمِل الحِقْدَا
كما أن صاحب الصدر الواسع لا يتأفَّف مِن حالته المادية، ولا يتضجَّر من الأسعار، ورفع الدَّعْم عن السلع، ولا يَحبس الأنفاس لخبرٍ سَمِعه مِن فلان أو علان، ولا يَهتمُّ بنَقْدٍ وكلامٍ قِيلَ فيه هنا وهناك، بل يسمح ويتسامح، ويُوكِل أمورَه إلى الله تعالى ويتوكَّل عليه: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3].
ونظرًا لأهمية سَعة الصدر وانشراحه في الدعوة إلى الله تعالى، فقد سأل موسى عليه السلام ربَّه قائلًا: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 25-28]؛ أي: وسِّعه وأفسِحْه؛ لأَتحمَّل الأذى القولي والفعلي، ولا يتكدَّر قلبي بذلك، ولا يَضيق صدري، فإن الصدر إذا ضاق، لم يصلُح صاحبُه لهداية الخَلْق ودعوتهم؛ كما قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة.
ولقد قرن الله تعالى نعمة شرح الصدر بنعمتين أُخْريين، وهما: وَضْعُ الوِزْر، ورَفْع الذِّكر؛ حيث يقول مُمتنًّا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه ذِروةَ الكمال من هذه الصفات الثلاثة: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1 -4] قال ابن كثير رحمه الله: يعني: "أَمَا شرَحنا لك صدرَك؛ أي: نوَّرناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا؛ كقوله: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: 125]، وكما شرَح الله صدرَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، كذلك جعل شرعَه فسيحًا واسِعًا سَمْحًا سهلًا، لا حرجَ فيه، ولا إصْرَ ولا ضِيْقَ".
فسَعة الصدر رحمةٌ ونِعْمةٌ، وسبب أُلْفةٍ ومحبَّةٍ في قلوب الناس، وصفةٌ لا يتخلَّق بها إلا العظماء الذين لا تَحمِل قلوبُهم موجاتِ الشَّحْناء والكراهية، والبُغْض والحسد والتحريش، والوقيعة بين الناس، فالقلب الطيب يسَعُ الدنيا، "وعندما يكون القلب طيبًا، يُمكن تصحيح أيِّ شيء"؛ كما يقول المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه.
شمعة أخيرة:
يقول الشاعر:
طَهِّرْ فؤادَك مِنْ حِقْدٍ ومِنْ دَغَلٍ *** فشَرُّ داءٍ يضرُّ القَلْبَ داؤهما |
|