من أنوار الكهف الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد: فهذه فوائد منثورةٌ مستنبطة من قصة موسى والخضر سلام الله عليهما ورحمته وبركاته في سورة الكهف، أذكُرها باختصار شديدٍ، وعلى النبيه الحريص على التدبر أن يُرجعَ كلَّ فائدةٍ منها إلى موضع استنباطها من الآيات؛ ففي ذلك تنشيطٌ للذهن واستعمالٌ للعقل وتركُ الاتكال على الغير في الفهم والمعرفة، وبالله تعالى أستعين.. أشار ابن عاشور رحمه الله إلى أن سببَ تقديم قصة سفَر موسى عليه السلام في طلب العلم على قصة سفَر ذي القرنين في بسطه المُلكَ في سورة الكهف - بيانُ أن الأَولَى أنْ يُدَلَّ الناسُ على العلم والحكمة وأَخبار الأنبياء عوَضَ دلالتهم على أسباب بَسْطِ الجاه. وفي قصة موسى عليه السلام والخَضر هداياتٌ عجيبة وفوائدُ غزيرة؛ منها: أنَّ التزودَ بالعلم حقيقٌ بالانقطاع والسفر إليه والنَّصَب فيه، وفيها تيسيرُ الله تعالى لطلابه ما أَخلَصوا، وتَفاوتُ الناس في العلم، واختلافُ أنواع العلوم، وتحذيرٌ من أنْ يفخَرَ المرءُ بعلمه وأن الجهلَ عيبٌ، وحقيقٌ أنْ يرتحلَ العاقلُ في إزالته عن نفْسه. وفيها: أن صاحبَ الحاجة لا ينبغي أنْ يَغفلَ عن حاجته، وإن وَكَّل غيرَه، وأن النسيانَ يكونُ من نفْس الإنسان، ويكون من الشيطان، وأن الشيطانَ يَسوؤه لقاءُ الصالحينَ وطلبُ العلم وأن لقاءَ الصالحينَ مَطلَبٌ عظيمٌ تَرخصُ فيه المشقَّةُ والمجاهدةُ والعناءُ، وأن من الناس مَن يكون رحمةً من الله لغيره. وفيها: الترفقُ بالخادم، وفضلُ الصحبة الصالحة، والحرصُ على صُحبة الأخ المُعين في الخير، والتحريضُ على ترك العجلة، وأن يتثبَّتَ المرءُ قبلَ الإنكار وأن يتطلبَ للصالحين الأعذار، وأن يتأدبَ مع مَن كان أعلمَ منه، وأن يَتريَّثَ في طرح الإشكال حتى تمام الدرس. وفيها: جواز التعاقد على التعليم، وأن حقَّ المعلم على المتعلم الاقتداءُ به واتباعُه وحقَّ المتعلم على المعلم الصبرُ على سؤالاته وإشكالاته، وأنْ يحرصَ المعلمُ على حُسن التعليم والتدرج فيه، وأن ينبه الطالبَ على وقوع ما قد يَقصُر عنه فهمُه، وأن التعلُّمَ يَتطلبُ المصابرةَ والطاعةَ للمعلم، وأن لإنكار المنكر طرائقَ مختلفةً. وفيها: أن المتعلمَ الذي حصَّلَ طَرفًا من العلم أقلُّ صبرًا من الخالي، وأن هذا من أسباب المنافَرة بين الطالب وأستاذه، وأن الواجبَ على طالب العلم ألا يقطعَ درسَ العلم فيكونَ ذلك سببُ حرمانه منه، وأن الصالحَ لا يَقدرُ على ترك إنكار المنكر. وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام أن المنكَرَ يُنكرُ وقتَ رؤيته إذا استبانتْ نكارتُه وفيها تغييرُ المنكر باليد لمن استطاعه، وأنه لا يَلزَمُ بيانُ سبب الفعل الذي يفعلُه المرءُ إلا لحاجة وأن على المرء أن يَدرأَ عنه نفسه سوءَ الظنون، وألا يتعجلَ الإنكارَ حتى يَستيقنَ وقوعَ المنكَر. وفيها: أن على منكر المنكَر بيانَ سبب إنكاره، وإظهارَ مَساوئ العمل الخاطئ، وعدمَ المجاملة في الإنكار أيًّا كانَ المنكَرُ عليه، وضرورة تذكير المرء بعهوده إذا نقضَها، وإعذاره ثلاثًا تفضُّلًا وكرَمًا، والتلطف في الاعتذار من الخطأ وطلب العفو. وفيها: أن الإقرارَ بالخطأ والاعتذارَ منه مِن شيَم الكبار والصالحين، وأن من أخلاق الكبار قَبولَ الاعتذار، وأن على الطالب أنْ يُنبهَ أستاذَه إذا شَقَّ عليه ما كلَّفَه به، أو لم يَفهم عنه حتى يراعيَه، وأنَّ لكل مقام مقالًا، وأنَّ مَن لم يَبلُغ الحُلُمَ فليس بمكلَّفٍ ونفسُه طاهرةٌ. وفيها: أن التكاليفَ والواجبات إذا تزاحمتْ، وجَبَ تقديمُ أحدها على غيرها بمقتضى المصلحة وأن المرءَ يفارقُ صاحبَه بتلطُّفٍ إذا لم يكونا على توافقٍ، وكذا الطالبُ مع شيخه، وأن الإثقالَ على الغير مكروهٌ، وأن حقَّ الضيف الإكرامُ، وأن رَدَّ الضيوف بلا مُوجبٍ لُؤمٌ. وفيها: جوازُ سؤال الطعام للمسافر إذا لم يجد، وجوازُ مقابلَة السوء بالسوء، وأن المعلمَ النبيهَ يُزيلُ هواجسَ الطلاب قبلَ أن يَبدؤوا سؤالَه، وأن من الأعمال ما ظاهرُه شرٌّ وحقيقته خيرٌ وكذلك ما قدَّرَه اللهُ من الأقدار، فتأمَّلْ هذا فإنه عظيمٌ عظيمٌ. وفيها: فضلُ الإحسان إلى الناس دون علمهم، وفيها جواز إتلاف جزءٍ من المال لإصلاح بقيَّته وجواز ارتكاب أخفِّ الضررين إذا ازدحمَا، وتقديمُ المصلحة العامة على الخاصة، وأن اللهَ يؤتي الحكمةَ من يشاءُ ويفضِّلُ بعضَ الناس على بعضٍ، وأن العالمَ الحقَّ لا يتحرك إلا بعلمه. وفيها: أن اللهَ قد يُكرمُ بعضَ الناس بصلاح آبائهم أو أبنائهم، ويَسوقُ إليهم بذلك الخيرات وأن اللهَ يُحسنُ للمحسنين، وأنه سخَّرَ الناسَ لبعضٍ، وأن وحيَ الله خيرٌ كلُّه، وأنه قد يَخفى على العاقل العالم كثيرٌ من العلم، وأن عقلَ البشر محدودٌ وإنْ كمُل، وتقديم الشرع على العقل وإنْ لم يُدرك العقلُ الحكمةَ والعلَّةَ في حُكم الشرع. وفيها: أن الأنبياءَ تتفاوتُ رُتَبُهم، وأن الله يُعطي بعضَهم علمًا يَخفى على غيرهم من النبيين وأن على العبد أن يَكلَ علمَ ما لم يَعلمَ أو لم يقطعْ به إلى الله عز وجل، وأن العلمَ يَتَفرَّقُ في الناس. هذا ولا ريبَ أن في هذه القصة فوائدَ أكثر؛ فالزَم التدبرَ حتى يفتح اللهُ لك من فضله فيها، والحمد لله رب العالمين.