،،
في القرآن الكريم نقرأ في موضوع التوبة آيات عدة، من ذلك قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} (النساء:17) ومنها قوله سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} (الزمر:53) ومنها قوله عز من قائل: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات} (الشورى:25) وقوله جلَّ علاه: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} (التوبة:104).
قال أهل العلم: واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّه المؤمنون لعلكم تفلحون} (النور:31).
وأمر التوبة في الإسلام أمر عظيم، فهي نعمة جليلة أنعم الله بها على عباده، إذ منحهم فرصة لمراجعة الحساب، وتدارك ما فات، والأوبة إلى ما فيه نجاتهم من المهلكات.
والآيات التي صدرنا بها مقالنا - وموضوعها التوبة - هي وجهتنا في هذا المقال، فنقول:
في قوله تعالى: {إنما التوبة على الله} تأكيد ووعد من الله تعالى بقبول التوبة من عباده، الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والمعاصي، كبيرها وصغيرها، حتى جُعلت كالحق على الله سبحانه، ولا شيء عليه واجب إلا ما أوجبه جل وعلا على نفسه.
ثم إن الجهالة الواردة في الآية {يعملون السوء بجهالة} تطلق على سوء المعاملة، وعلى الإقدام على العمل دون رويِّة؛ يقال: أتاه بجهالة، بمعنى أنه فَعَلَ فِعْل الجهال به، لا أنه كان جاهلاً؛ بدليل أنه لو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية لم يكن آثمًا، ولا يجب عليه إلا أن يتعلم ذلك ويتجنبه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} قال: من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء.
ومعنى قوله تعالى: {من قريب} أن يبادر المذنب والعاصي إلى التوبة بعد فعل المعصية، من غير أن يتمادى في غيه ومعصيته؛ وهو بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) رواه الترمذي.
أما قوله عز شأنه في الآية التالية: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات} (النساء:18) فهو تنبيه منه سبحانه على نفي قبول نوع من التوبة، وهي التي تكون عند حضور الموت واليأس من الحياة {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} (النساء:18) إذ المطلوب من العبد حال توبته أن يقرن العمل بالقول، ولا يكفيه في ذلك أن يقول ما لا يفعل، أو يفعل ما لا يقول؛ فإعلان التوبة ليس مجرد كلمات تقال، وألفاظ تردد فحسب، بل لا بد أن يصدق ذلك عمل وفعل، وإلا لم تكن توبة نصوحًا، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة، إذ لم يبق معها مجال للعمل.
وقد وردت أحاديث عدة تؤكد هذا المعنى وتوضحه، من ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه أحمد والترمذي.
وإذا كانت التوبة في آية النساء الأولى {إنما التوبة على الله} عامة لكل من عمل ذنبًا، فإن الآية الثانية {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} قد خصصت هذا العموم حال حضور الموت وعند النزاع، إذ لا تجدي التوبة حينئذ.
على أن ما قد يشكل في هذا السياق ما جاء في سورة النساء نفسها، وهو قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء:48) فظاهر الآية أن الله سبحانه يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك فإنه لا يغفره، وهذا الإطلاق في الآية مقيد في حال مات العبد وهو مشرك بالله، فإن مغفرة الله لا تناله من قريب ولا من بعيد، لكن إن تاب العبد من إشراكه قبل موته، فإن الله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.
قال ابن كثير رحمه الله: أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به؛ أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك، أي من الذنوب لمن يشاء، أي من عباده. وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، من ذلك ما رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني، فإني غافر لك على ما كان منك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقُراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة)، ولهذا كان الإيمان أشرف أنواع التوبة.
وبعد: فقد أجمع المسلمون كلهم، على أن التوبة من الكفر، والإقرار بالإيمان، تستوجب المغفرة من الله؛ وأن الموت على الكفر مطلقًا لا يُغفر بلا شك، وأجمعوا كذلك على أن المذنب إذا تاب يغفر ذنبه، إذا استجمع شروط التوبة المقبولة؛ أما إذا مات المذنب على ذنبه - غير الشرك بالله - من غير أن يتب، فآية النساء وغيرها من الأدلة، تدل على أن أمره متروك لمشيئة الله سبحانه، إن شاء عفى عنه برحمته وعفوه، وإن شاء عذبه بعدله وقسطه، والله أعلم.
.