تحارُ العقولُ البشرية هذه الأيام، من جراء الأسقام الفتاكة، والأوبئة المنتشرة، والتي حصَدت بلا حسبان، وأهلكت بلا مقدمات، ومن ذلك "مرض كورونا" المرعب هذه اللحظات ، حتى تعطلت مصالح، وعُلقت شؤون، وارتعدت دول ، وخاف الناس، واختلطت الأمور ....
• هزَّ النفوسَ وهزَّ هذا الكوكبا ... "كورونا" أوغلَ في البقاع وأرهبا / وتعاضدُ الآنامُ في تقليلهِ...لكنه يسري وصار مُشعّبا / كالحتفِ كالطاعون والسقَم الذي... قد هام في تلك السدود وأعطبا/ يا أيها الإنسانُ هل من عبرةٍ... ومواعظٌ سيقت فكن متأهبًا ...!
• واهتزت عقائدُ بعض المسلمين، ولاذَ كثيرونَ بالجانب المادي ، وتغافلوا عن الجانب الروحي، وفقه الشريعة الغراء، وسنن الله في الخليقة، وسخرت بعض الأعادي من الخطاب الديني، وعولوا على المادة وأخواتها ...! فناسب التذكير بتحصينات قرآنية، ومعاليم نورانية، تقوم مقام التوعية والتنبيه - لا سيما وصفته كالطواعين التاريخية- مع الأخذ بالأسباب المادية، واتباع إرشادات التوقي والسلامة ، فنذكّر أنفسنا وإخواننا بموعظة القرآن ، تجاه تلك الأمراض والبلايا العامة ، وإننا لفي أمس الحاجة إلى إحياء هذه المعاني لترسخ رسوخًا بلا زحزحة، وتتعمق في الوجدان بلا تذبذب، وكتاب الله أجل موعظة، وأحكم ذكرى، وأصدق عقيدة ونصيحة ، ( قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور )سورة يونس . وحريٌّ بأهل الإيمان تحفظه والإقبال عليه، وتعليمُ الصغار، وبث ذلك لعوام المسلمين، حتى يثبتوا في الشدائد، ويتصدوا للمخاطر، وهم في أتم إيمان، وأصفى عقيدة، مع العناية بالأسباب الأخرى ... ومن ذلك ما يلي :
1- كلُّ شيء مقدَّرٌ مكتوب: ( قل لن يُصيبنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا هو مولانا ) سورة التوبة:51 .
وهذه عقيدة راسخة في وجدان كل مؤمن ، أن هذه الأحداث وكل الأمور مقدرة مكتوبة، قد كتبها الله وأحاط بها ، فلِم الخوفُ والتضعضع، ولم الهلع والانهزام...؟! أي : نحن تحت مشيئة الله وقدره ، ( هو مولانا ) أي : سيدنا وملجؤنا ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) أي : ونحن متوكلون عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
2- تنوع البلاء الكوني: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) سورة البقرة : 155 .
فيها بيان تنوع بلاءات أهل الدنيا، ما بين الخوف والجوع والتناقص والوفيات .
قال البغوي رحمه الله:" أي ولنختبرنكم يا أمة محمد، واللام لجواب القسم تقديره : والله ليبلونكم والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به.{بشيء من الخوف} قال ابن عباس: "يعني خوف العدو". {والجوع} يعني القحط. {ونقص من الأموال } بالخسران والهلاك. {والأنفس} يعني بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب. {والثمرات} يعني الجوائح في الثمار.." .
3- الشافي هو الله تعالى : ( وإذا مرضتُ فهو يشفين ) سورة الشعراء .
كما ابتلى فقد عافى، وقد أمرض وشافى، سبحانه وتعالى ، فهو الشافي كما في الحديث الصحيح ( إشفِ أنت الشافي ) . وأسند إبراهيم عليه السلام المرض إلى نفسه من باب الأدب ، وإذا اعتقد العبد ذلك، هانت عليه أدوية البشر، وكان استعمالها من باب السبب، ( عباد الله تداووا ) وليس التوكل واليقين ..!
4- المصائب من كسب بني آدم: ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) سورة الشورى :30 .
أي تلك البلايا النازلة بكم، والمصائب الواقعة، إنما هي من جراء خطاياكم، ومع ذلك يعفو عنكم ويتجاوز كثيرا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( ما يُصيب المسلم من نَصَب ولا وصب ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله بها مــن خطايـاه ). فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتعل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها عن ذنبهم ولومهم، والوقيعة فيه، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار، فاعلم أن مصيبته مصيبة حققية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة، قال علي رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: "لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه"، وروي عنه وعن غيره: "ما نزل بلاءٌ إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة" .
وهذا معنى ظاهر في حياة الصالحين ، يقول العلامة محمد بن سيرينَ رحمه الله-: " إني لأعرفُ الذنبَ الذي حُمِّلَ عليَّ به الدَّينُ * مَا هوَ؟! ، قلتُ لرجلٍ من أربعينَ سنةٍ: يا مُفْلس! ".
5- التأسي بالصابرين قبلنا إنا وجدناه صابرا، نعم العبد إنه أواب سورة ص .
نحو أنبياء صدقوا، وعباد أخبتوا، وصالحين خشعوا، مرت بهم بلاءات، وخاضوا محنا، وتجرعوا مرارات، ومن أشهرهم المذكورين في القرآن على وجه الثناء والقدوة أيوب عليه السلام، الذي التهمه البلاء نحو ثماني(18) عشرة سنة، فصبر وجاهد، واحتسب وصابر( نِعم العبد إنه أواب ) .
6- التشافي بالقرآن العظيم : ( ونُنزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) سورة يونس .
ففي كتاب الله من القوة الشفائية ما لا يخطر ببال، يُصلح قلبا، ويبرئ جسدًا ، وهذا في حق أهله المؤمنين العاملين .
قال في جامع البيان رحمه الله : وننـزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء ، يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبُصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به، لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، ويُنجيهم من عذابه، فهو لهم رحمة ونعمة من الله، أنعم بها عليهم " . وهذا شفاء معنوي، ويشمله الشفاء الحسي الذي ينصب على الجسد والبلاء فيذهب ضره، ويعيد عليه صحته، ودل لذلك النص والحس والتجاريب الواقعية ، ففي قصة اللديغ، قال :" فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عليه، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأنَّما نُشِطَ مِن عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَما به قَلَبَةٌ -علة-... فَقَدِمُوا علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَذَكَرُوا له، فَقالَ: وَما يُدْرِيكَ أنَّهَا رُقْيَةٌ، ثُمَّ قالَ: قدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لي معكُمْ سَهْمًا فَضَحِكَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ " .أخرجاه .
7- التداوي بالعسل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ).سورة النحل .
وهو من أعظم ما خلق الله من الطعام والشراب والدواء ، وأفلح وأنجح في أدواء مستعصية ، وأسقام قاسية، بفضل الله ومنته، قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :" في خلق هذه النحلة الصغيرة، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة، ويسر لها المراعي، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها، وهدايته لها ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة. فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى، وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه ".
ونظائر العسل في السنة الصحيحة : زمزم والزيت والحبة السوداء وغيرها ، وقد أثبت الطب الحديث جدواها وقوة تأثيرها .
8- الضراعة عند البلاء : ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا )سورة الأنعام .
أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا ، ولا يصح ركونهم الدنيوي، ولا سلوكهم العصياني، وقد جاءتهم النذر، وعمَّتهم البأساء والضراء . ومثل أزمنة المخاطر والأوبئة فرصة سانحة للتوبة، وتجديد الميثاق مع الله، وإشاعة التسامح، ورد المظالم لأصحابها، والخروج من كل مأثمة وملهاة ( ففروا إلى الله ) سورة الذاريات .ومن ثمارها فرارا صادقًا، وتوبة نصوحا، وعملا طيبا، وروحًا فاتنة .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " فاللهُ يبتلي عبدَه ليسمعَ تضرعه ودعاءه والشكوى إليه ، ولا يحب التجلد عليه ، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه ، وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره ، فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه ، وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف ، فرحمته أقربُ إلى هذا القلب من اليد للفم ".
وفي هذه الظروف العصيبة، وإبان تسطير المقال، يتداعى بعض زعماء الغرب إلى "صلاة دينية وطنية"، ليُخفَّف عنهم البلاء، خلافا لسخرية بعض بني قومنا من إحياء الجانب الروحي في الأمة، وندبهم للدعوات ..!
واعجبًا لهم وكلُ جهولِ... قائمٌ عندنا بكل خُبولِ
ضاق ذرعا بسنة وحديثٍ...وانبرى فيهما بسيفٍ صقيلِ...!
أو صيرورة بعضهم في مساره الإلهائي بدون عظة وانتهاء، وقد قال تعالى أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول..) سورة الإسراء . أي أمرا قدريًا .
يقول الإمامُ ابن كَثير رحمه الله في سنة ( 478) هـ: " كثرت الأمراضُ بالحمى والطاعون بالعراق والحجاز والشام، وماتت الوحوش في البراري، ثم تلاها موت البهائم ، وهاجت ريح سوداء، وتساقطت الأشجار، ووقعت الصواعق! ثم أمر الخليفة: المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكسر آلات الملاهي، ثم انجلى ذلك " .
وفقيهنا هذه الأيام من يعي الخطر، ويصدح بالتوبة والذكر، ويكفر عما سلف وبدر، ( ربنا ظلمنا أنفسَنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين ) سورة الأعراف .
9- إجابةُ دعاء المضطرين {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} سورة النمل:62 .
وفي ذلك تسليةٌ لهم وبشارة، بأن الله لا يعجزه شيء، ولا يحول دون مشيئته واقع، والمضطر هو الذي قطع العلائق، وذبلت أسبابه ، وهانَ جهده، وانقطع أمله، إلا من الواحد الأحد، فيفيض دعوات صادقات، وكلمات مشعات، قد فاحَ خضابُها، وطاب إخلاصُها ، فيأتيه الجواب وهو لا يشعر ..! ويشبه حالته المكروب الذي ضاقت عليه الحياة، وقد صحّت له أدعية كدعوة يونس عليه السلام لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّماوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ قال الإمامُ ابن القيم رحمه الله:" فما دُفعت شدائدُ الدنيا بمثل التوحيد؛ ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد. فلا يُلقي في الكُرَب العظام إلا الشرك، ولا ينجّي منها إلا التوحيد، فهو مفزَع الخليقة وملجؤها ، وحصنها وغياثها. وبالله التوفيق."
عو اللهَ والأمرُ ضيقٌ... عليّ فما ينفكّ أن يتفرجا
وربَّ فتىً سُدت عليه وجوهُه.... أصاب له في دعوة الله مخرجا
10- كاشف الضر سبحانه وتعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سورة الأنعام :17 .
حينما تعيشُ هذا المعتقد في قلبك، وتتوكل على ربك ، ستحيا بعده في أنسٌ وارتياح ، وسيعظمُ التعلق، ويشتد التوسل، فهو الخالق المدبر المتصرف سبحانه وتعالى ، فلن يحولَ دون ذلك إنسانٌ ، أو تمنعه قوة . وفي الوصية الذهبية لابن عباس رضي الله عنهما واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف ) .
والمهم المعتمد هنا قوة الإيمان والتوكل، وقوة الذكر والاستعصام، ومن أحسنِ الأذكار هنا حديث أبان أنه قال : سَمِعْتُ عُثْمَانَ - يَعْنِي ابْنَ عَفَّانَ - يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ قَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ ". قَالَ : فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ : مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ ؟ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا. رواه أبو داود بإسناد حسن .
ونعتقد أن وعي هذه التحصينات والعمل بها، كافٍ في ضبط سلوك المرء واتزانه، وجعله في ارتياح وهدوء، مع الأخذ في عين الاعتبار بالتدابير الأخرى المادية، والله يتولانا ويحفظنا وبلادنا وسائر بلاد المسلمين، إنه نعم المولى ونعم النصير .