من علماء اللغة
الخليل بن أحمد
اسمه ونسبه :
هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفَرَاهِيديُّ ،
ويقال : الفُرْهودِي ، الأزدي . و الفراهيدي نسبة إلى فراهيد ،
وهي بطن من الأزد . والفرهود : ولد الأسد بلغة أزد شَنُوءة ،
و قيل : إن الفراهيد صغار الغنم [1] .
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة :
" أول من سُمِّي في الإسلام أحمد (بعد رسول الله) ، أبو الخليل بن أحمد العروضي " [2] .
مولده وبلده :
كان مولده في العام المتم مائة من الهجرة (100هـ) في زمن الخليفة
الأموي العادل عمر بن عبد العزيز [3] .
و لا يُعلم على التحقيق أين كان مولده ، وإن كان بعضهم يقول إنه ولد
بمدينة عُمان على شاطئ الخليج العربي [4] ، وعاش في البصرة [5] .
ملامح شخصيته وأخلاقه :
كان الخليل بن أحمد - رحمه الله- رجلاً صالحًا عاقلاً ، وقورًا كاملاً ،
مفرط الذكاء ، وأكثر ما كان من صفاته بعد سيادته في العلم وانقطاعه له
ما كان من زهده وورعه ؛ إذ كان متقللاً من الدنيا جدًّا ، متقشفًا متعبدًا ،
صبورًا على خشونة العيش وضيقه ، وكان يقول :
" إني لأغلق عليَّ بابي فما يجاوزه همي " [6] .
وليس أدل على ذلك مما حكاه عنه تلميذه النضر بن شميل حيث قال :
" أقام الخليل في خُصٍّ من أخصاص البصرة ، لا يقدرُ على فَلْسَيْنِ ،
وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال " [7] .
هذا، وقد رُوِي له في الزهد:
و قبلك داوى الطبيبُ المريضَ *** فعاش المريض و مات الطبيـب
فكن مستعدًّا لـداء الفنـا *** فإن الـذيهـو آتٍ قريـب
ويُحكى عنه أيضًا أنه كان كثيرًا ما ينشد بيت الأخطل:
وإذا افتقرت إلى الذَّخائر لم تجدْ *** ذُخْرًا يكون كصالح الأعمال
و من حكايات زهده أن سليمان بن عليٍّ والي البصرة وجَّه إليه يلتمس
منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يُجرِيه عليه ، فأخرج الخليل
إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا ، وقال : ما عندي غيره ، وما دمت أجده
فلا حاجة لي في سليمان . فقال الرسول : فماذا أبلغه عنك ؟ فأنشأ يقول :
أبلغ سليمان أني عنـه في سعـةٍ *** وفي غِنًى غير أني لسـت ذا مـالِ
سخَّى بنفسيَ أني لا أرى أحـدًا *** يموت هزلاً ولا يبقي على حـالِ
و الفقر في النفس لا في المال نعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المـالِ
فالرزق عن قَدَرٍ لا العجز ينقصـه *** ولا يزيـدك فيه حَـْولُ محتـال[8]
فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل :
إن الذي شقَّ فمي ضامن *** للـرزق حتى يتوفـاني
حرمتني خيرًا قليلاً فما *** زادك في مالك حرمـاني
فبلغت سليمان ، فأقامته وأقعدته ، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه ،
وأضعف راتبه ، فقال الخليل :
وزَلَّة يكثر الشيطان إن ذكرت *** منها التعـجب جاءت من سليمـانا
لا تعجبَنَّ لخيرٍ زلَّ عن يـده *** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا[9]
وفوق زهده وورعه ، وتقواه وعلمه ، فقد كان الخليل رجلاً ظريفًا
متواضعًا حسن الخُلُق ؛ ومما ذُكر في ذلك أنه اشتغل عليه رجل في
العروض وكان بعيد الفهم ، فأقام مدةً ولم يعلق على خاطره شيء منه ،
قال الخليل : فقلت له يومًا : كيف تقطِّع هذا البيت ؟
إذا لم تستطع شيئًا فدعـه *** وجاوزه إلى ما تستطيـع
قال الخليل : " فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته ، ثم إنه نهض من
عندي فلم يعُدْ إليَّ ، وكأنه فهم ما أشرت إليه " [10] . و هنا يتجلَّى أدب
الخليل وحسن خُلُقه مع تلامذته ، وكيف كان يستعمل منهجًا تربويًّا فريدًا
في تعليمه إياهم .
و من أفضل ما عُلم عن أدب الخليل وتواضعه ما حكاه عنه أيوب بن
المتوكل حيث يقول :
" وكان الخليل إذا أفاد إنسانًا شيئًا لم يُرِه أنه أفاده ، وإن استفاد من أحدٍ
شيئًا أراه بأنه استفاد منه " [11] . وفي ذلك ما فيه من سموٍّ نفسي
وإنكارٍ للذات ، فضلاً عن احترام المعلم والإقرار بفضله على المتعلم ؛
إذ ذاك من بعض حقوقه .
وفي مثل ذلك أيضًا ما أخبر به تلميذه النضر بن شميل حيث قال:
" ما رأيت أحدًا يُطلب إليه ما عنده أشد تواضعًا منه " [12] .
وفي موقفٍ يجسِّد صفة التواضع هذه يحكي الفضل بن محمد اليزيدي
فيقول : " قدم الخليل بن أحمد عليَّ وأنا على طِنْفسةٍ ، فأوسعت له عليها
، فأبى إلا القعود معي عليها ، ثم قال : مهلاً ، إن الموضع الضيق يتسع
بالمتحابين ، و إن الواسع من الأرض ليضيق بالمتباغضين ؛
ثم أنشأ الخليل بن أحمد يقول :
يقولون لي دار المحبين قد دنـت*** وإني كئيب إن ذا لعجـيب
فقلت : وما يغني الديار وقربها*** إذا لم يكن بين القلوب قريب[13]
شيوخه :
كغيره من أقرانه وعلماء عصره ، فقد أخذ الخليل وتتلمذ على أكثر من
شيخ وأستاذ ، وكان منهم أيوب السختياني البصري ، وقد فقه اللغة عليه
، وأيضًا عاصم الأحول بن النضر البصري ، والعوام بن حوشب ،
وغالب بن خطاف القطان البصري[14] ، وكذلك أبو عمرو بن العلاء ،
وعثمان بن حاضر الأزدي ، وغيرهم [15] .
تلاميذه :
كان تلاميذه - رحمه الله - من الكثرة والنجابة بمكان ، وكان أبرزهم
(سيبويه) النحوي البصري حُجَّة العربية ، وعبد الملك بن قريب الأصمعي
، وحماد بن يزيد ، وأيوب بن المتوكل البصري القارئ ، وبَدَل بن المحبَّر
، وداود بن المحبر ، وعلي بن نصر الجهضمي الكبير ، وعون بن عمارة
، و المُؤَرِّج بن عمرو السدوسي ، وموسى بن أيوب ، و النضر بن شميل
، وهارون بن موسى النحوي الأعور، ووهب بن جرير بن حازم ،
ويزيد بن مرة الذَّارع ، والليث بن المظفر [16] .
وإذا كان من أكبر أسباب شهرة الخليل بن أحمد هو تلميذه سيبويه في
مؤلَّفه الشهير (الكتاب) ؛ إذ عامَّة الحكاية فيه عن الخليل ، وكلما قال
سيبويه في كتابه : " وسألته " من غير أن يذكر قائله، فإنما يعني بذلك الخليل [17] .
مؤلفاته :
إن من أهم ما طيَّر اسم الخليل وأذاع شهرته في الآفاق هو كتابه ومعجمه
البِكْر من نوعه في مصنفات اللغة العربية : (كتاب العين) ،
ولم يكن (العين) هو مصنَّفه الوحيد ، وإنما ذكرت كتب المراجع أن له
أيضًا : كتاب (فائت العين) ، و كتاب (العروض)، و كتاب (الشواهد) ،
و كتاب (النقط والشكل) ، و كتاب (النغم) ، و كتاب في (معنى الحروف) ،
و كتاب في (العوامل) ، و كتاب (الإيقاع) ، و كتاب (تصريف الفعل) ،
و كتاب (التفاحة في النحو) ، و كتاب (جملة آلات الإعراب) ،
و كتاب (شرح صرف الخليل) ، و كتاب (الجمل) ، و كتاب (المُعَمَّى) ،
وغيرها [18] .
منهجه في كتاب العين :
لقد رتَّب الخليل في (العين) الحروف العربية على مخارجها من الحلق
على النظام التالي، كما جاء في مقدمته لكتاب العين : ع ، ح ،هـ ، خ ، غ
، ق ، ك ، ج ، ش ، ض ، ص ، س ، ز ، ط ، د ، ت ، ظ ، ث ، ذ ، ر، ل
، ن ، ف ، ب ، م ، و ، ا ، ي ، همزة [19] .
وإذا كان الخليل قد عدَّ العين أقصى الحروف مخرجًا ، فإن سيبويه يذكر
أن الهمزة أقصى الحروف مخرجًا . غير أن ابن كيسان يروي أنه سمع
من يذكر عن الخليل أنه قال : " لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص
والتغيير والحذف ، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء الكلام ولا في اسم
ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً ، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفيَّة لا صوت لها ،
فنزلتُ إلى الحيز الثاني و فيه العين والحاء فوجدتُ العين أنصع الحرفين ؛
فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف " [20] .
وقد بسط الخليل في العين الكلام في هذه الحروف ومخارجها ، فعدَّها
تسعة وعشرين حرفًا، جعل منها خمسة وعشرين حرفًا صحاحًا لها أحياز
و مدارج ، كما جعل منها أربعة هوائية . ولقد وَسَم الخليل كتابه المعجم
هذا بأول حرف اعتمده ، وهو العين .
ولما كان الخليل أول واضعٍ للكلم العربي في صورة معجمية ، كان عليه
بعد ذلك أن يستقصي الكلمات بعد أن اختار الترتيب ، وكان اعتماده على
ما ساقه الصرفيون - ممن سبقه - من حصرٍ لأبنية الكلمة ، وجعلها إما
ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية . و على هذا وجد الخليل أن مبلغ
عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي
والثلاثي والرباعي و الخماسي من دون تكرار، اثنا عشر ألف ألف و
ثلاثمائة ألف و خمسمائة آلاف و أربعمائة و اثنا عشر (12305412) :
الثنائي : سبعمائة وست وخمسون (756) .
الثلاثي : تسعة عشر ألفًا وستمائة وست وخمسون (19656) .
الرباعي : خمسمائة ألف وأحد وتسعون ألفًا وأربعمائة (591400) .
الخماسي : أحد عشر ألف ألف ، وسبعمائة وثمانٍ وثلاثون ألفًا وستمائة (11738600) .
اعتمد الخليل في هذا الإحصاء على تنقّل الحرف في بنيته من الكلمة ،
فالحرف في الكلمة الثنائية ينتج عن تنقله صورتان يكون أولاً ويكون ثانيًا
، والحرف في الكلمة الثلاثية ينتج عن تنقله صور ثلاث يكون أولاً وثانيًا
وثالثًا ، والحرف في الكلمة الرباعية ينتج عن تنقله صور أربع ،
وفي الكلمة الخماسية صور خمس . ولا شك أن هذا الاستقصاء
ثم الاستصفاء اقتضى من الخليل جهدًا حثيثًا ، وفكرًا كبيرًا [21] .
آراء العلماء فيه :
إحقاقًا للحق ، وامتنانًا بالفضل ، وعرفانًا بالسبق فقد أثنى كثير من علماء
المسلمين على الخليل بن أحمد رحمه الله ، وأنزلوه المكانة اللائقة به ،
حتى قال عنه حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب (التنبيه على حدوث
التَّصحيف) : " وبعد ، فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم تكن
لها أصول عند علماء العرب من الخليل ، وليس على ذلك برهان أوضح
من علم العروض الذي لا عن حكيمٍ أخذه ، ولا على مثال تقدَّمه احتذاه ،
وإنما اخترعه من ممرّ له بالصَّفَّارين من وقع مطرقة على طست ، ليس
فيهما حجة ولا بيان يؤديان إلى غير حليتهما أو يفيدان عين جوهرهما ،
فلو كانت أيامه قديمة ، ورسومه بعيدة لشكَّ فيه بعض الأمم ؛ لصنعته ما
لم يضعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره ،
ومن تأسيسه بناء كتاب (العين) الذي يحصر فيه لغة كل أمة من الأمم
قاطبة ، ثم من إمداده سيبويه في علم النحو بما صنَّف كتابه
الذي هو زينة لدولة الإسلام " [22] .
وقال عنه سفيان بن عُيَيْنة رحمه الله :
" من أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِق من الذهب والمسك ،
فلينظر إلى الخليل بن أحمد " [23] .
و يُروى عن تلميذه النضر بن شميلٍ أنه قال :
" كنا نُمَيِّل بين ابن عونٍ و الخليل بن أحمد أيهما نقدِّم في الزهد
و العبادة ، فلا ندري أيهما نقدِّم ؟! "
و كان يقول : " ما رأيت رجلاً أعلم بالسُّنَّة بعد ابن عونٍ من الخليل
بن أحمد " [24] . و كان يقول : " أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل و كُتُبِه و هو
في خُصٍّ لا يُشْعَر به . و كان يحج سنةً ، و يغزو سنةً ، و كان من الزهَّاد
المنقطعين إلى الله تعالى " [25] .
وقال السيرافي : " كان الغاية في تصحيح القياس ، واستخراج مسائل
النحو وتعليله " [26] . وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي :
" كان أهل البصرة -يعني أهل العربية - من أصحاب الأهواء إلا أربعة
فإنهم كانوا أصحاب سُنَّة : أبو عمرو بن العلاء ، والخليل بن أحمد ،
ويونس بن حبيب ، والأصمعي " [27] . وقال عنه ابن حبان في كتاب
الثقات : " كان (أي الخليل) من خيار عباد الله المتقشفين في العبادة " [28] .
وفاته :
كما كان الخليل عجيبًا في حياته ، متفردًا بين بني جنسه، كانت وفاته
أيضًا كذلك ؛ فقد أراد أن يُقرِّب نوعًا جديدًا من الحساب تمضي به الجارية
إلى البائع فلا يمكنه ظلمها، فدخل المسجد وهو يُعمِل فكره في ذلك ، ولكن
أجله كان بالمرصاد ، حيث صدمته سارية وهو غافل عنها بفكره ، فانقلب
على ظهره ، فكانت سبب موته . و قيل : بل كان يقطِّع بحرًا من العروض
، وكان ذلك بالبصرة سنة سبعين و مائة من الهجرة
(170هـ) على المشهور، ودُفِن بها [29] .