آيات بينات وأنوار هاديات (1)
التوبة أولى خطى السعادة
قال الله - عزَّ وجل -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
في رحاب الآيات:
إنَّ السعادة الحقيقية للمؤمن تتحقَّق في قوة الصلة بالله، والقُرب منه والأُنس في طاعته
وإنَّ مِن أعظم العوائق في طريق سَير المؤمن إلى ربه الذنوب والمعاصي؛ فهي تُشكِّل حاجزًا
كبيرًا يَحجُب المرء عن ربه، ويُصيبه بألوان من الضيق والوَحشة، والحسْرة والألم، لا يعرفها
إلا من أصابته جراحاتها؛ لذا دعا الله - عز وجل - عباده إلى التخفُّف من هذه الآصار والأغلال
التي أثقلتْ كاهلهم، دعاهم إلى واحة وارفة الظلال، يستجير بها المؤمن من رمضاء الذنوب
والمعاصي، دعاهم إلى الأمل بعد الزَّلل، وفتح لهم أبواب الإياب بعد طول الغياب
دعاهم إلى التوبة؛ ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
يقول د. عبد الكريم الخطيب - رحمه الله -: "إن الغرقى إذ يَسمعون هذا النداء الكريم، لَيَروَن
بأعيُنهم - رأي العين - مراكب النجاة تحفُّ إليهم من كل جِهَة، وليس عليهم إلا أن يتعلَّقوا بها
ويشدُّوا أيدِيَهم عليها؛ لِتَحملهم إلى شاطىء النجاة والسلامة، وهؤلاء الذين يُنادَون من ربهم
هذا النداء الرحيم الكريم، ويُضافون إلى عزَّته وجلاله إضافةَ الرحمة والإكرام - هم العُصاة الخارجون
على حدود الله، المُعتدون على حُرماته، الجاحدون لنِعَمه، إنهم الذين أسرفوا على أنفسهم
وجاروا عليها بهذه الأوزار التي حمَّلوها إياها، فيا لُطف الله، ويا لِسَعة كرمه، وعظيم مِنَنه وجليل إحسانه!
وقوله تعالى: ﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ هو اليد البرَّة الرحيمة الحانية التي يُربِّت الله بها على هؤلاء
المُذنِبين العصاة، بمجرَّد أن يلتفتوا إلى هذا النداء الرحيم اللطيف: ﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾، إنها قريبة
منكم، دانية لأيديكم، فهيَّا أَقبِلوا عليها، واستظِلُّوا بظلِّها، واقطفوا ما تشاؤون من ثَمرها".
وفي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ شِحنة من النور تُضيء ظلام هذه النفوس
التي تنظر إلى الله - سبحانه وتعالى - من خلال هذا الضَّباب المنعقد من اليأس حولها، وهى تَذكُر
بشاعة جرائمها، وشناعة آثامها، وتحسب جهلاً وضلالاً أن ذنوبها أكثر من أن تُغفَر، وأن جرائمها
أكبر من أن يُتجاوَز لها عنها، كلاَّ؛ فإن ذلك ظنٌّ سيِّىء بالله؛ فأى عذر لمذنب بعد هذا البلاغ
المبين، إذا هو لم يسعَ إلى الله ويَغتسل فى بحر رحمته من أدرانه، ويتطهَّر من ذنوبه؟
وأي عذٍر لمُجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم، إذا هو لم يمدَّ يده إلى ربِّه؛ ليُقيل عَثرته، ويحمل عنه وِزره؟
﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]
إنها ضيافة كريمة فى ساحة رب كريم، وإنها نُزُلٌ مُهيَّأة بكل أسباب الهناءة والرضوان
يستقبل فيها على طريق الحياة أولئك الذين أضناهم السفر الطويل، وأكلَتْ وجوههم لوافح
الهجير، فيجدون حيث يَنزِلون ظلاًّ ظليلاً، وطعامًا هنيئًا، وشَرابًا باردًا.
فقل لمن يرى هذا المنزل الكريم ويعدل عنه: ألا ما أعظم غباءك وما أشأم حظَّك، وما أولاك
بالذئاب تَفترسك، وبالحيات تنهشك، فلا يرحمك راحم، ولا يبكيك باكٍ من قريب أو صديق!
قوله تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 54]
هو رحمة مِن رحمة الله، وإفساحٌ لطريق النجاة، بالعودة إلى الله والمصالحة معه، فى أيَّة لحظة من لحظات
الحياة، قبل أن تدنو ساعة الموت، ويَنقطِع العمل، ويَنتقِل الإنسان إلى الدار الآخِرة بما مات عليه
فى الدنيا، وعندئذ ينزل الإنسان منزله فى الآخِرة، بآخِر منزل كان عليه فى الدنيا؛ ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾ [الواقعة: 88 - 94].
أنوار هاديات:
1- انقشْ هذه الآية في قلبك، وضعْها نُصْب عينَيك كلما أثقلتك الذنوب وأنهكَتك الشهوات
فهذه الآية بمثابة حاجز صدٍّ منيع ضدَّ أحد أهم مداخل الشيطان، وهو القنوط من رحمة الله، فلا تغرنَّك
وساوس الشيطان وهمسُه في أذنك بأنه لا فائدة منك، وأنَّك أصبحتَ قتيل شهوتك، وأسير ذنوبك.
2- احرِصْ على التوبة الفورية دون تأجيل أو تسويف، فكلما كانت التوبة قريبةً من الذنب
كانت أسهل في العودة؛ حتى لا تتحوَّل المعصية إلى عادة يَصعُب التخلُّص منها.
3- حقِّق شروط التوبة الصادقة؛ حتي تجني الثِّمار المَرجوَّة؛ ومنها:
الإقلاع عن الذنب، والبُعد التام عنه، الندم على ما فات ندمًا يَبعثه في النفس شعورٌ
عميق بأنه كان مُخطئًا، العزم الصادق على ألا يعود إلى المُستنقَع الذي أخرجه الله منه
وحتى إن عاد بحُكمِ ضَعفه البَشري، فلتتذكَّر أن التوبة هي الملاذ الآمِن.
4- احذر من أن تكون هذه الآية سببًا في اغتِرارك بسعة رحمة الله، وعظيم عفَوِه، فتتمادى
في المعاصي وتَستمرِئ الذنوب، فتَنسى التوبة؛ يقول الإمام الحسن البصري - رحمه الله -:
"إن قومًا ألهتْهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني لأُحسِن
الظن بربي وكذَب، لو أحسن الظنَّ، لأحسن العمل".
5- احرص على أن يكون لك جِسرًا من الطاعات يَحميك من الوقوع في أَسْر المعاصي
وقيود السيئات، فالطاعات بمثابة لقاح نافع في مُواجَهة جراثيم الشهوات والمعاصي.
فيا إلهي الرؤوف الرحيم، هذه نفسي الضعيفة تجأَر إليك مُستغيثةً برحمتك، فما لي من شيءٍ
أستطيع عرْضه بين يدَيك، سوى فقري وذلِّي وانكِساري بين يديك، أنا عبدك المذنب العاصي
عدتُ تائبًا، فأذِقْني برْد عفْوِك، واغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
د. هاني درغام