لم يكن الليل حدَثًا لتبتدأ به الأقلام في وقتٍ وتنساه في حينٍ أو أحيان أخرى، إذ إنَّ الليل هو تلك القصيدة التي ما تزال متدفقةً من العصر القديم إلى العصر الحديث يتغنَّى بها الشعراء في مجالس سمرهم وسهراتهم، فتارة يُشبهونه بالموج وأخرى بأسنة الرِّماح، فتعزف الجارية إلى جانب تلك التشابيه الغزيرة أوتارًا تدقُّ قلوب السَّامعين قبل آذانهم، ولم يقتصر وصف الليل على طريقةٍ من الطرق أو على شاعرٍ دون آخر، بل كان لكلٍّ سهمه من ذلك المجال سواء عظم ذلك السَّهم أم قل فإن عَظُم كان ذلك م دماثة عقله وفيض عبارته وجمال كلماته، ووإن قلَّ كان ذلك من ضعف لغته وقلة خياله، فالعاشق يرى في الليل قصيدة حبٍّ لطيفة الملمس جميلة القوام فاتنة المبسم طيِّبة الرِّيح، والوحيد يرى في الليل أنيسًا صادقًا صدوقًا في المهمات والكربات، والمريض يرى في الليل راحة لا ينشدها في النَّهار؛ لذلك كان لليل النَّصيب الأكبر من القصائد العربية والشعر عن الليل في العصر الحديث لم يكن بأقل منه في العصر القديم، وفيما يأتي ذكرٌ لأهم تلك القصائد: أجمل ما قاله محمد بن علي السنوسي في وصف الليل: الليلُ في الريفِ غير اللَّيل في المدنِ فافتح ذراعيكَ للأريافِ واحتضنِ واستقبلِ اللَّيل فيها إنَّه ملكٌ ضافي الجناحين يغري العين بالوسنِ كأنَّه فيلسوفٌ مطرقٌ عجبًا مما يرى في حياةِ النَّاسِ من درنِ أو شاعرٌ عبقريُّ الفكرِ منغمرٌ في لجةِ الوحيِ لا يدري عن الزَّمنِ أو خاطرٌ في ضميرٍ باتَ منفصلًا بطهرهِ ومزاياه عن الإحن أو عاشقٌ غارقٌ في حبِّ فاتنةٍ فليسَ يعنيهِ شيءٌ كانَ أو يكنِ صمتٌ يُحلق بالأرواح في أفقٍ من السكون ثريٍّ بالجمال غنى يضفي الهدوءَ عليهِ من نعومتهِ صفو يضيءُ بهِ الإحساسَ في البدنِ وتلتقي في معانيهِ وصورتهِ روحُ السَّماء وجسمُ الأرضِ في قرنِ اللَّيلُ في الريف ليلٌ في معاطفه وملءُ أردانه روحُ الهوى اللَّدِنِ هنَا غلالتهُ الزَّرقاءُ زاهيةٌ كطرحة فوقَ وجهٍ فاتنٍ حسنِ واللَّيل في الرِّيفِ وجهٌ في شمائله سمْتُ التقىِّ النقيِّ الخاشِعِ الفطنِ هنا السَّماء تراءى من جوانبهِ نقيَّة من دخانِ الغازِ والعفنِ يمتد فوق تجاعيد وأفئدةٍ فطريَّة العيشِ والعاداتِ والسّننِ قلوبهم وأمانيهم ونظرتهم صوفيةُ الرُّوح من صوفِ الثَّرى الخشنِ الشاكرينَ إذا مسَّ الحياة ندى والصابرينَ على الآلام والحزنِ هنا السماء لها لحن يرجِّعه عزفُ النسائمِ في الآكام والقٌنَنِ من كل عاطرة ريّا مضمخة بالمسكِ ينداح من زهرٍ ومن فننِ واللَّيل في الريفِ ليلُ العاشقين وقد نامَ الوجودُ وهامَ القلبُ بالشجنِ يا ليل الهوى والجوى والحبّ منطلقًا ملء الرِّبا والصِّبا واللَّحظ والأذنِ |
|