عند مغادرة البيوت العتيقة نأخذ معنا كل الأشياء إلا الأمكنة فحقائبنا لا تتسع للجدران ولا للأمكنة ......
اليوم وأنا أحزم حقائبي لمغادرة البيت القديم كان ضجيجا ما يعلو داخلي فاختلطت علي وجوه وأصوات كل الذين كانوا يوما هنا ورحلوا وكأن السنوات كلها استيقظت بي لتودعني وللسنوات صوت كلما مر العمر بنا ازداد قوة فهل سمع أحدكم يوما نبرة صوت السنوات وهي تناديه ؟؟؟؟
وهل نادت عليكم البيوت العتيقة يوما وأنتم تديرون لها ظهوركم مودعين؟؟؟؟؟
هل سمعتم صوت بكائها ؟؟؟
ولمحتم الجدران تلوح لكم مودعة ؟؟؟؟
هل خيل إليكم أن روحا ما تبث في الجماد فينظر إليكم بحزن مودع؟؟؟
فبعض الأمكنة تتحول عند الرحيل إلى طفل مدلل يتشبث بثوبك وقدميك وقلبك فتصبح خطوة المغادرة أثقل من جبل وكيف لا تستيقظ بنا السنوات عند الرحيل لتودعنا؟؟؟؟
كيف لا تبكي لفراقنا الجدران ؟؟؟
وفي الجدران خبأنا العمر كله إلا قليلا فنحن حين نغادر القديم لا نغادر مجموعة من الطوب صفت بيد بناء محترف ولا نغادر أحواضا من الرمل سرقت شمس الزمن صفرتها ...
ولا نغادر مجموعة من الأشجار المسنة التي طالت حتى شاخت فنحن حين نغادر البيوت العتيقة لا نغادر جزءا من مكان نحن نغادر جزءا من عمر فجدران البيت العتيق ككتاب العمر وحين نرحل نترك الكتاب مفتوحا بلا أغلفة ونترك بين طيات الكتاب من التفاصيل الكثير....
وهنا سأترك طفلة بضفائرها طفلة كانت تتسمى باسمي وتشبهني كثيرا إلا أنه لم يكن للحزن بها وطن هنا سأترك لعبتي التي دفنتها في الرمل منذ سنوات خشية أن تهديها والدتي ذات عقاب لابنة الجيران هنا سأترك بيوت الرمل التي لم تكن مجرد ماء ولا طين كانت نماذج مصغرة لأحلامي فمن الطين صنعت منزلي ، ومن الطين صنعت فارسي ، ومن الطين صنعت أطفالي ، ومن الطين صنعت بخيال الطفلة كل أبطال حكايات جدتي...
صنعت عروسة بحذاء واحد وسميتها ( سندريلا ) وصنعت عروسة بثوب أحمر وسميتها ( ليلى ) وسهرت ليالي طويلة كي أصنع حصان المتنبي وخلطت التراب بالفحم كي أصنع عنترة وأصبح لدي مدينة كاملة من الطين .....
وحين كبرت قليلا وربما كثيرا غادرت أحواض الرمل إلى زوايا البيت فلكل زاوية في البيت العتيق في قلبي حكاية فبين الزوايا تنام أحاديث مراهقتي وهمسات أسرار خجلي ...
سكبتها ذات اعتراف أبيض في آذان رفيقات المدرسة ولم أكن أعلم أن آذان رفيقاتي مثقوبة وأن آذان الجدران أوسع من قلوب رفيقاتي ....
وفي زوايا البيت القديمة خبأت كنوزا من تفاصيل العمر خبأت تركة لا تورث فبين الزوايا تتمدد أيامي ويلتحف كالنائم عمري فلكل زاوية ذكرى وحكاية فزوايا رقصت بها فرحا وأخرى رقصت بها ألما وزوايا ضحكت بها وزوايا سهرت بها وزوايا احتضرت بها وزوايا مت بها وزوايا كبرت بها فهل جرب أحدكم أن يكبر بين الزوايا ؟؟؟؟
وهل جرب أحدكم يوما أن يغادر الزوايا التي كبر بها ؟؟؟؟
ما أصعب وداع الأمكنة فالأمكنة تمرض وراء أصحابها وربما تموت لهذا يخفت النور فيها بعد رحيلهم كثيرا وتبدو المنازل المهجورة كالمرأة المسنة بيضاء الشعر محنية الظهر شاحبة الوجه فالأمكنة تبكي ولكن لا يسمع بكاء الأمكنة إلا إنسان سترت الأمكنة بكاء قلبه يوما ولا يشعر بوهن الأمكنة عند الفراق إلا إنسان سندته عند وهنه جدرانها ....
فان قررتم يوما مغادرة البيوت العتيقة فلا تؤذوا مشاعرها واستتروا من الزوايا وأنتم ترتبون حقائبكم ، استتروا من الجدران وأنتم تجمعون آخر البقايا ، استتروا من الأبواب وأنتم تتجهون نحو باب الخروج
فللبيوت أعين وقلوب .....