الأمور المعينة على تدبر القرآن
١- تَحْسِين التِّلاوة:
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾؛ وحثَّ رسولُ اللَّه صلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عَلَى التَّغنِّي بِالْقِرَاءَة وَتَحْسِينِهَا، فِي قَوْلِهِ: « لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرآنِ » رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَهَذَا التَّرْتِيل لِلْقُرْآن وَالتَّغَنِّي بِهِ يُعين تَدَبَّرَه وَتَفَهَّمْه.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: « الْمَطْلُوب شرعاً، إنَّما هُو التَّحسين بالصَّوت، الْبَاعِثُ عَلَى تدبُّر الْقُرْآن وتفهُّمه، وَالْخُشُوع وَالْخُضُوع، وَالِانْقِيَاد للطَّاعة ».فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، (ص 195).
و « التَّرتيل أَفْضَلُ مِنْ الهذِّ؛ إذْ لَا يصحُّ التَّدبُّر مَع الهذِّ ». تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ، (15 /192).وَالْإِسْرَاعُ فِي الْقِرَاءَةِ يدلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعَانِي؛ فَظَهَر أنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّرتيل إنَّما هُوَ حُضُورُ الْقَلْبِ، وَتُفْهَم الْمَقْرُوء.
إذاً التَّرتيل مستحبٌ للتَّدبُّرِ وَالتَّفَهُّم، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّوقير وَالِاحْتِرَام، وأشدُّ تأثيراً فِي الْقَلْبِ. اُنْظُر: التِّبْيَان فِي آدَابِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ، لِلنَّوَوِيّ (ص 46).
والسَّبب فِي كَرَاهَةِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ القراءةَ بِالْأَلْحَان: « لِخُرُوجِهَا عمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ لَهُ مِنْ الْخُشُوعِ والتَّفهُّم ». صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِشَرْح النَّوَوِيّ (6/80).
وَاَللَّهُ تَعَالَى تعبَّد الناسَ بتدبُّر الْقُرْآن، كَمَا تعبَّدَهم بالتِّلاوة، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الألْبَابِ﴾.
فَظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمُ مِنْ إنْزَالِ الْقُرْآنِ، هُو التَّدبُّر والتَّفكر فِي آيَاتِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ؛ لَا مجرَّد التِّلاوة مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ. اُنْظُر: مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ، (ص 215).
٢- قِرَاءَة اللَّيل:
فَصَلَاة اللَّيْل والتَّأمُّل فِي آيَاتٍ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظِهِ وَعِبْرَةٌ، صلاةُ اللَّيل وَالْقِرَاءَة فِيه؛ يُعِينُ عَلَى فَهْمِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾.
قَالَ ابْنُ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ : « هُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَفْقَهَ فِي القُرآنِ » حَسَنٌ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، (2 /32).
« وَالْمَعْنَى: أنَّ صَلَاة اللَّيل أوفقُ بالمصلِّي بَيْن اللِّسان وَالْقَلْب، أَيْ بَيْنَ النُّطق بِالْأَلْفَاظ، وتفهُّم مَعَانِيهَا؛ للهدوء الَّذِي يَحْصُلُ فِي اللَّيل، وَانْقِطَاع الشَّواغل ... وَأَعْوَنَ عَلَى الْمَزِيدِ مِنْ التَّدبُّر ». تَفْسِيرِ ابْنِ عَاشُورٌ (29/ 245-246).
ومِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدَارِس النَّبيَّ صلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم الْقُرْآن كلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ،
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْمُدَارَسَة الْمُبَارَكَة: « الْمَقْصُودَ مِنْ التِّلاوة الْحُضُور وَالْفَهْم؛ لأنَّ اللَّيل مظنَّةُ ذَلِك، لِمَا فِي النَّهار مِن الشَّواغل وَالْعَوَارِض الدُّنيوية والدِّينية ».فَتْحِ الْبَارِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، (9 /45)