من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام
من الهدي النبويِّ التعميم في الكلام:
كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التعميم في الكلام والوعظ وعدم مواجهة الناس بالعتاب، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله ثم قال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً»[1].
قال الإمام النووي في الحديث: الحث على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم والنهي عن التعمق في العبادة وذم التنزه عن المباح شكا في إباحته وفيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع وإن كان المنتهك متأولا تأويلا باطلا وفيه حسن المعاشرة بإرسال التعزير والإنكار في الجمع ولا يعين فاعله فيقال ما بال أقوام [2].
كان- صلى الله عليه وسلم - أفصح الخلق نطقًا، وأعذبهم كلامًا:
قال أبو بكر ابن العَرَبي: الباري تعالى بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفصح الخلق بأفصح الكلام، فضرب الأمثال، وصرف الأقوال، وسلك في كل شعب من المعاني قدرة على القول، واستلطافًا للقلوب في جانبي الرغبة والرهبة اللتين انتظم بهما التكليف وارتبط بهما الثواب والعقاب[3].
وقال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح، ويشهد له بذلك أعداؤه[4].
اختياره - صلى الله عليه وسلم - جودة المطالع، والاستفتاحات للكلام:
عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصعد إلى الجبل فنادى: «يَا صَبَاحَاهْ»[5]، فاجتمعت إليه قريش، فقال: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ، أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟» قالوا: نعم، قال: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا تبا لك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1] " إلى آخرها[6].
فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم، أنه محفوظ اللسان قال الماوردي: أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا وللصدق مجانبا، فإنه لم يزل مشهورا بالصدق في خبره فاشيا وكثيرا حتى صار بالصدق مرموقا وبالأمانة مرسوما وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه[7].
يتكلم مع كل ذي لغة بلغته اتساعا في الفصاحة واستحداثا للألفة والمحبة:
قال القاضي عياض في الشفا: كان- صلى الله عليه وسلم - يخاطب كل أمة منها بلسانها ويحاورها بلغتها ويباريها في منزع بلاغتها حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله، ومن تأمل حديثه وسيره علم ذلك وتحققه وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد، ككلامه مع ذي المشعار الهمداني وطهفة النهدي[8]،... وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن[9].
وقال الرافعي: ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم؛ إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا، إذ ابتعثه للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ ثم هم مختلفون في ذلك... فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وضيع مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم[10].
كلامه صلى الله عليه وسلم موجز لم يسبق إليه:
قال ابن رجب- رحمه الله-: جوامع الكلم التي خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعان: أحدهما: ما هو في القرآن....، والثاني: ما هو في كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وهو موجود منتشر في السنن المأثورة عنه، وقد جمع العلماء جموعا من كلماته الجامعة، فصنف الحافظ أبوبكر بن السني، كتابا سماه: الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة، وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا سماه: الشهاب في الحكم والآداب، وصنف على منواله قوم آخرون، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة [11].
وجملة القول عن كلامه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن الأثير: قد عرفت -أيدك الله وإيانا بلطفه وتوفيقه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا، وأوضحهم بيانا، وأعذبهم نطقا، وأسدهم لفظا، وأبينهم لهجة، وأقومهم حجة، وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طرق الصواب، تأييدا إلهيا، ولطفا سماويا، وعناية ربانية، ورعاية روحانية .
[1] صحيح البخاري (8/ 26)، صحيح مسلم (4/ 1829)، واللفظ البخاري.
[2] شرح النووي على مسلم (15/ 107).
[3] القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 452).
[4] زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 175)
[5] قال ابن الأثير: يا صباحاه: كلمة يقولها المستغيث، وأصلها إذا صاحوا للغارة، لأنهم أكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح، ويسمون يوم الغارة يوم الصباح، فكأن القائل يا صباحاه يقول قد غشينا العدو. وقيل إن المتقاتلين كانوا إذا جاء الليل يرجعون عن القتال، فإذا عاد النهار عاودوه، فكأنه يريد بقوله يا صباحاه: قد جاء وقت الصباح فتأهبوا للقتال. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 6).
[6] صحيح البخاري (6/ 180)، صحيح مسلم (1/ 193)، واللفظ البخاري.
[7] أعلام النبوة للماوردي (ص: 225).
[8] بني نهد: هم قبيلة باليمن كانوا يتكلمون بألفاظ غريبة وحشية لا تعرفها أكثر العرب. انظر: كنز العمال (10/ 617).
[9] الشفا بتعريف حقوق المصطفى - وحاشية الشمني (1/ 71).
[10] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي (ص: 195).
[11] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1/55، 56).
[12] النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 4).