صفاء اليقين

اليقينُ أعظمُ منةٍ ربانيةٍ يُكرَم بها العبدُ، وأجزلُ هِبَةٍ يُعطاها، كما قال النبيُّيمنع
صلى الله عليه وسلم: "سَلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ، واليقينَ في الأولى والآخرةِ؛ فإنه
ما أُوتيَ العبدُ بعْدَ اليقينِ خيرًا من العافيةِ"؛ رواه الحاكمُ وصحَّحه.
بذلك اليقينِ يَستقرُ في القلبِ التصديقُ الجازمُ بأن ما جاءَ عن اللهِ ورسولِهيمنع
صلى الله عليه وسلم حقٌ وصدقٌ؛ لا يَتسرَّبُ إليه ريبٌ، أو يُعارضُ بشبهةٍ
أو يُؤوَّلُ بشهوةٍ، بل يَراه حقًا ماثلًا كما يَرى الواقعَ إذا وَقَع.
إن اليقينَ نورٌ متى حَلَّ في القلب أكْسبَه صفاءً يُبْصِرُ به خَطَلَ الضلالِ وظلمتَه، ويُورِثُه ذلك
حساسيةً مُرْهَفَةً تُنَفِّرُ عن الباطلِ؛ فلا يَقرَبُ منه، فضلًا عن أن يمازجَه. واليقينُ مع رِقَّةِ صفائِهيمنع
صلبٌ ذو رسوخٍ يَقوى به القلبُ أيّما قوةٍ، ويَثْبُتُ أمامَ جَحَافِلَ الشُّبَهِ الشَّرِسَةِ؛ فترجعُ منكسِرةًيمنع
لم تَظْفرْ منه بشيءٍ سوى زيادةِ مخزونِ القوةِ فيه حين علا عليها. وشِيمةُ البُصَرَاءِ إزاءَ النَّعمِ الجِدُّ في طلبها
وتقييدُها بَعْدَ حَوْزِها بزمامِ الحفظِ والشكرِ؛ وكلما علا شأنُ النعمةِ حَسُنَ التَّحوُّطُ في حفظِهايمنع
والزيادةُ في شكرِها؛ كيف إذا كانت تلك النعمةُ اليقينَ سيدَ النعم وواسطةَ عِقْدِها؟!
عبادَ اللهِ!
إنَّ أعظمَ خطرٍ يُهدِّدُ صفاءَ اليقينِ عادياتُ الشُّبَهِ التي لا تَنِيْ عن الإجْلابِ على القلبِ بُغْيةَ زعزعةِ
يقينِه؛ إذ هو الحارسُ الذي إنْ ضَعُفَ عاثتْ جنودُ الفَسادِ في مملكةِ القلبِ دون ردعٍ أو مقاومةٍ تخريبًا وهدْمًا
سيما وأن لهذه الشبهاتِ بَرِيقًا ودَهْشَةً إن وقعتْ في زمنِ غلبةِ الجهلِ وانحسارِ العلمِ وبُروزِ أئمةِيمنع
الضلالِ والمنافقين عليميْ اللسانِ ولُبِّستْ بشعارٍ جذابٍ ومَسْحةٍ شرعيةٍ تضليليةٍ وسَهُلَ وصولُها والوصولُ إليها
وتناقلتَها القنواتُ ووسائلُ التواصلِ ولم تقمْ الكفايةُ بواجبِ دَحْضِها وإبطالِها؛ وذاك ما يجعلُ المؤمنَ
يبحثُ عن جادةِ النجاةِ التي إنْ سَلَكَها سَلِمَ له يقينُه الذي به نجاتُه.
إنّ أعظمَ أسبابِ حفظِ اليقينِ وإبقاءِ صفائِه إدراكُ العبدِ ضعفَه وعجزَه، وأنه لا غنى لهيمنع
عن إعانةِ اللهِ له طرفةَ عينٍ؛ وذاك ما يدعوه إلى دوامِ الافتقارِ إلى ربِّه، وإدمانِ سؤالِه الهدايةَ والثباتَيمنع
عليها التي يلزم كلَّ مسلمٍ طلبُها من ربِّه كلَّ يومٍ وليلةٍ سبعَ عشرةَ مرةً. ومن لازم استشعارِ الضعفِ
البشريِّ أمامَ الشُّبَهِ الذي به العصمةُ منها الابتعادُ عن مواطنِها، وعدمُ الاقترابِ منها، فَضْلًايمنع
عن البحثِ عنها، ومتابعةِ أصحابِها، كما قال اللهُ تعالى-:
﴿يمنعوَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِيمنع
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَيمنع﴾ [الأنعام: 68]
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَمِعَ بالدجالِ فلينأْ عنه، فواللهِ إن الرجلَ ليأتيهيمنع
وهو يحسبُ أنه مؤمنٌ فيتبعُه، مما يبعثُ به من الشبهاتِ " رواه أبو داود وصحَّحه الألبانيُّ.يمنع
قال مَعْمَرٌ: " كنت عند ابنِ طاووسَ في غديرٍ له، إذ أتاه رجلٌ يقال له صالحٌ، يتكلَّمُ في القَدَرِ
فتكلَّمَ بشيءٍ منه، فأدخلَ ابنُ طاووسَ أصبعيه في أذنيه وقال لابنِه: أدخلْ أصبعيك في أذنيك واشْدُدْ
حتى لا تسمعَ من قوله شيئًا؛ فإنَّ القلبَ ضعيفٌ ". وأمّا إنِ اغْتَرَّ العبدُ بحالِه وعِصمتِه، فخاضَ
لُجَّةً الشَّبُهِ، وقَلّبَ نظرَه بين سطورِها ومواقعِها وقنواتِها، وأرخى سمعَه لأهلها؛ فإنّ اللهَ يَكِلُهُ لنفْسه؛ فسريعًايمنع
ما يَتداعى بناؤه، ويَتهاوى في حَمْأَةِ الشُّبهاتِ قلبُه، قال سفيانُ الثوريُّ: " مَنْ أَصْغى بسمعِه
إلى صاحبِ بدعةٍ خرجَ مِن عِصمةِ الله، وَوُكِلَ إلى نفسه". قال ابنُ الجوزيِّ: " ما رأيتُ أعظمَ فتنةً مِن مقاربةِ
الفتنةِ، وقلَّ أن يقاربَها إلا مَن يقعُ فيها، ومَن حَامَ حول الحمى يُوشِكُ أن يقعَ فيه ". قال شيخُ الإسلامِ
ابنُ تيميةَ: " فهذه المحنُ والفتنُ إذا لم يطلبْها المرءُ، ولم يتعرضْ لها، بل ابْتُليَ بها ابتداءً أعانه اللهُ تعالى-يمنع
عليها بحسبِ حالِ ذلك العبدِ عنده؛ لأنه لم يكن منه في طلبِها فعلٌ ولا قَصْدٌ؛ حتى يكونَ ذلك
ذنبًا يُعاقَبُ عليه، ولا كان منه كِبْرٌ واختيالٌ مِثْلُ دعوى قوةٍ، أو ظَنِّ كفايةٍ بنفسه حتى يُخذَلَ بتركِ توكُّلِهيمنع
ويُوكَلُ إلى نفسه، فإنَّ العبدَ يُؤْتَى مِنْ تَرْكِ ما أُمِرَ به ". قال ابنُ بطَّةَ العَكْبُرِي: " فاللهَ اللهَ معشرَ المسلمين
لا يَحْمِلَّنَّ أحدًا منكم حُسْنُ ظنِّه بنفسه، وما عَهِدَه مِن معرفتِه بصحةِ مذهبِه على المخاطرةِ بدينه في مُجالسةِ
بعضِ أهلِ هذه الأهواءِ، فيقولَ: أُداخِلُه لأناظرَه، أو لأستخرجَ منه مذهبَه؛ فإنهم أشدُّ فتنةً مِن الدجالِ
وكلامُهم ألصقُ من الجَرَبِ، وأحْرَقُ للقلوبِ من اللَّهبِ. ولقد رأيتُ جماعةً من الناس كانوا يلعنونهم، ويسبُّونهم
فجالسوهم على سبيلِ الإنكار، والردِّ عليهم، فما زالتْ بهم المباسطةُ وخفيُّ المَكْرِ، ودقيقُ الكفرِ حتى صَبَوْا إليهم ".يمنع
وإنْ عَجَبٌ فَعَجَبٌ حالُ أولئك الذين تقحَّموا مواطنَ الشُّبَهِ حبًا للاستطلاع ومعرفةِ ما لدى أصحابِهايمنع
زاعمين تحصَّنَهم وعدمَ تأثُّرِهم، بينما يُرَوْنَ مُتَّخذين أشدَّ إجراءاتِ التَّحَرُّزِ التي تقرب من الوسوسة
مِن مخالطةِ ذَويْ المرضِ المعديِ، وغِشيانِ الأماكنِ التي مَرَّوا عليها، وتَرْكِ ما مَسَّتُه أيديهم
فضلًا عن مُخالطتِهم، وما عَلِموا أن سلامةِ يقينِ قلوبِهم أولى بالرعايةِ والوقايةِ من سلامةِ أبدانِهم
إذ هو مَعْقِدُ النجاةِ يومَ الدِّين؛ ﴿يمنعإِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍيمنع﴾ [الشعراء: 89] |
|
|
|