من أعظم ما يعين على الصبر
الإيمان نصفان: صبر وشكر،ولما كان كذلك كان حريا بالمؤمن أن يعرفهما ويتمسك بهما، و أن لا يعدل عنهما، وأن يجعل سيره إلى ربه بينهما ومن هنا كان حديثنا عن الصبر في القرآن الكريم فقد جعله الله جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو وجندا لا يهزم،وحصنا لا يهدم. فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد،
الأسباب المعينة على الصبر
أ - المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا:
إن من عرف طبيعة الدنيا وما جبلت عليه من الكدر والمشقة والعناء هان عليه ما يبتلى به فيها لأنه وقع في أمر يتوقعه، والشيء من معدنه لا يستغرب، وقد عرفنا الله بهذه الحقيقة فقال: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد))، أي في مشقة وعناء، وقال: ((ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه))، وبين جل جلاله أنها لا تدوم على حال بل يوم لك ويوم عليك ((إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس)).
ب - معرفتك بأنك وما بيدك ملك لله تعالى ومرجعك إليه:
قال تعالى: ((ومابكم من نعمة فمن الله))، وقد علمنا في كتاب ربنا أن نقول عند حلول المصائب: ((إنا لله وإنا إليه راجعون))، يقول ابن القيم: "وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته:
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل، وقد جعل عند العبد عارية. وأيضاً، فإنه محفوف بعدمين، عدم قبله، وعدم بعده حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره. ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بدايته ونهايته، فكيف يفرح بموجود ويأسى على مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده أعظم علاج هذا الداء
ج - اليقين بحسن الجزاء عند الله تعالى:
أن مما يرغب الإنسان في العمل، ويزيده ثباتاً فيه علمه بحسن جزائه في الآخرة ولا نجد في القرآن شيئاً ضخم جزاؤه وعظم أجره مثل الصبر فيقول نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ويقول مبيناً أن الصابرين يجزون بأحسن ماعملوا: ((ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون))،
د - الثقة بحصول الفرج:
إن يقين العبد بأن النصر مقرون بالصبر وأن الفرج آت بعد الكرب وأن مع العسر يسراً يقويه على الصبر على ما يلاقيه، وقد كثرت الآيات الدالة على هذا المعنى لما له من أثر في مزيد التحمل والثبات، قال تعالى: ((فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا))،
وقد تكرر في القرآن الأمر بالصبر مقروناً بالتذكير بأن وعد الله حق لا يتخلف أبداً قال تعالى: ((وعد الله لا يخلف الله الميعاد))، وقال: ((فاصبر إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)).
إن اشتداد الأزمة في سنن الله تعني قرب انبلاج الفجر وظهور طلائع النصر كما قيل:
اشتدي أزمةُ تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
ولهذا نجد يعقوب يكون أمله في العثور على يوسف أشد عندما أخذ ابنه الثاني فيقول: ((فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً))، وقال لأبنائه ((يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)).
هـ - الاستعانة بالله:
مما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى ويلجأ إلى حماه فيشعر بمعيته سبحانه وأنه في حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يضام ولذا قال موسى لقومه بعد أن هددهم فرعون بما هددهم به ((استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)).
و - الاقتداء بأهل الصبر:
إن التأمل في سير الصابرين يعطي الإنسان شحنة دافعة على الصبر، ومن هنا ندرك سر حرص القرآن المكي على ذكر صبر الأنبياء على ما لاقوه من أممهم وهذا ما صرح الله به في قوله: ((وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين))،
((أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))، وقال لهم: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب)).
ز - الإيمان بقدر الله:
إن إيمان العبد بقدر الله النافذ واستسلامه له أكبر عون على تجشم مصاعب المصائب، وعلم العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه برد من اليقين يصب على فؤاده، قال تعالى: ((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم))، وركون المؤمن إلى قدر الله في مثل هذا المقام واحتجاجه به أمر لا غبار عليه لأنه إحالة على القدر فيما لا اختيار للعبد فيه.
واعلم أن الجزع والهلع والتبرم والضيق لايرد من قدر الله شيئاً فلابد من الصبر أول الأمر لئلا يحرم العبد من المثوبة ولئن لم يصبر أول الصدمة فسيصبر بعد ذاك رغم أنفه ولا أجر له، قال حكيم: "العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد السبعة أيام" |
|
|
|