تُمرَّر علينا بين الفينة والأخرى، رسائلُ عديدة عبر أجهزتنا الذكية، مفادها أن هذه المكتبة أو المجلة قد أتاحت نصوصها أو بعضها إلكترونياً بالمجان. وتكون الرسالة في الغالب مصدَّرة أو مذيَّلة بدعوتنا لاستغلال هذه الفرصة العظيمة للقراءة والتزود بالعلم النافع والفكر النير. ترد هذه الرسائل إلينا ممن يقرؤون بشكل أو بآخر، أو ممن يتظاهرون بالقراءة، والصنف الأخير يُكثِر من الإرسال دون تمييز، أو فرز يتفحّص عبره مدى صلاحية هذه المصادر أو النصوص “المجانية” للفئات التي يُرسِل إليها، إذ إن أكبر همّه أنه يرسل مواداً “جادّة” لها علاقة بالكتب والقراءة، في عمليات أشبه ما تكون بـ “غسيل الرسائل”.
لا شأن هنا لي بمَن يرسلها، وإنما الشأن كله مع من تُرسل إليه من القراء ممن يريد أن يكون قارئاً جيداً في المستقبل، فهذا النص الصغير كُتب لهم، وهو من النصوص التي يُسفر فيها العنوانُ عن المضمون بطريقة قد تغني عن قراءته، بل ربما تقنع الكاتب نفسه بالكف عن الزيادة، وهذا هو حالي معه، لولا أنني أروم توضيح جملة من الأمور الإضافية، التي قد تكون مفيدة، أو مبرهنة على صحة هذه النتيجة (الواردة في العنوان) التي قد يراها البعض غير صحيحة، وهذا من حقهم قطعاً. قد يحتج بعضهم بأن الجاحظ وأبا حيان التوحيدي والعقاد وعبدالرحمن بدوي وغسان كنفاني وبورخيس وغيرهم كثير كثير هم قراء نهمون جداً. هذا صحيح، فهم قطعاً نهمون، ولكنهم ليسوا فوضويين إطلاقاً، أي أنهم ليسوا ممن يقرأ أي شيء متاح. إنهم يفترقون -مثلاً- عن قراءة “بيّاع الكتب”، ذلك الذي يأخذ في قراءة ما يقع في يده، تزجية للوقت، واكتساباً لقدر من المعلومات، وربما لإطفاء لهيب فضول معرفي. هل سمعت أن كثيرين من هولاء صار لهم شأن في عالم الكتابة والفكر؟ إذن، ثمة ما يدعو لتوضيح زوايا عديدة في النتيجة الواردة في العنوان.
بعض الرسائل التي ترد إلينا تتضمن مصادر رصينة ونصوصاً جيدة أو مفيدة، مثل مجلة هارفارد للأعمال (هارفارد بزنس ريفيو)، أو MIT Sloan Management Review بالعربية، أو كتباً في أمازون أو في مكتبة الإسكندرية، ويدخل في ذلك أيضاً أي كتب أو مراجع ورقية مُهداة لك من صديق أو زميل أو متاحة لك بأية طريقة أخرى. ولقد نقّبتُ مرة في بعض المصادر المتاحة التي أُرسلتْ إليَّ من صديق، لمدة تزيد على 6 ساعات، مستخرجاً قرابة 100 نص، ومخزناً إياها لدي في مجلداتي البحثية. فلماذا أقول إذن: لا تقرأ ما هو متاح لك، بل ما أنت متاح له؟ في ممارستي السابقة لم أكن قارئاً لما هو متاح لي، لأنني أعتقد أن القارئ لما هو متاح له (لا العكس)، سيكون مُنظّماً بطريقة أو بأخرى لفئة أو أكثر من الفئات القرائية غير الفعالة، أي تلك التي تفتش خِماصاً وتقرأ خِماصاً أيضاً. سأضعها في ثلاث فئات كبيرة، مستعرضاً ما خلصت إليه من توصيفات بقالب “أولي”، عبر رصدي التراكمي “الاجتهادي” الهادئ للسلوك القرائي في مجتمعنا العربي، من خلال شرائح قرائية تمثل تنوعاً جيداً، ولبضع سنوات.
الفئة الأولى: القراء الغافون / العابرون:
القراء الغافون هم أولئك الذين ينامون عن القراءة طويلاً، ولا شيء يوقظهم لها، سوى تلك الرسائل القائلة بمجانية كتب أو إتاحة نصوص معينة. ليسوا فقط غافين، وإنما هم قراء عابرون، إذ لا رؤية لديهم، ويتجسد عدم امتلاكهم للرؤية بأنهم لا يتوفرون على مشاريع علمية/فكرية أو كتابية، كما أنهم خِلوُ من المشاريع الحياتية بشكل عام، وأعني بها المشاريع الكبيرة التي تتطلب قدراً من العلم والمعرفة والخبرة، بما يجعلها مفتقرة إلى القراءة والتعلم. وكل ذلك يجعلهم راضين بأن يقرأوا أشتاتاً مبعثرة، أشتاتاً هنا، وأشتاتاً هناك. تتسم القراءة لديهم بثلاث سمات بارزة:
1- سطحية نوعياً، وقليلة كمياً.
2- عشوائية (غير منتظمة).
3- نَطَّاطة.
وهذه الفئة من القراء، درجات يعلو بعضهم فوق بعض، ولو سيكولوجياً، إذ يمارس بعضهم خداعاً نفسياً، في محاولة حثيثة لبناء “هُوية قرائية”، وهذه الهوية بحاجة إلى صك وجودي، والذي قد يتخلق بقالب “أنا أقرأ صفحات هنا وهناك، إذن أنا قارئ“. المحصلة القرائية النهائية لكثير من هولاء، أنهم ينضمون إلى جيوش المجادلين الشكِسين، وهم يجادلون بأثمان المنهجية وأرباع الحقائق. هم أكثر من عوام وأقل من قراء، ولكنهم أسوأ كثيراً من العوام.
الفئة الثانية: القراء التائهون / اللامنهجيون:
هولاء قراء، وربما يكون من بينهم من يقرأ بشكل جيد من الناحية الكمية والوقتية، مع قدر من الجدية القرائية. وبعضهم يكون لديهم مشاريع علمية/فكرية أو كتابية، أو مشاريع حياتية كبيرة (نسبياً)، أي أنهم يتوفرون على رؤية، وأحياناً تكون رؤية جيدة أيضاً، بيد أنهم قراء مُعدَمُون منهجياً. انعدام المنهجية يفضي بهم إلى عدم القدرة على تحديد الحقول التي يتوجب عليهم أن يقرأوا فيها، والمراحل والجرعات والمستويات القرائية المناسبة ونحو ذلك من الأطر التي ترتبط بمنهجية القراءة. وجود الرؤية لديهم، يجعلهم يمارسون قدراً من الفرز في النصوص المجانية التي تتاح لهم، ولكن فرزهم هذا ليس عميقاً بما يكفي، الأمر الذي يجعل قراءتهم متورطة بكونها:
1- مرتبكة وغير منظمة.
2- مزاجية.
3- سياقية.
السمة الثالثة تعني أن القراءة لديهم تتأثر بما يفرضه السياق المجتمعي، وذلك بحسب اهتماماتهم وخارطة نماذجهم الإدراكية والتحليلية، فقد يقرأ الواحد منهم –مثلاً- كتاباً اقتصادياً نقدياً في الصباح، ويبتدئ في المساء دون أن يكمل الأول أو يحوصله برواية “مجانية” مصحوبة بتزكية من قارئ معروف أو غير معروف (في شبكات التواصل الاجتماعي)، ولكنه يراه جديراً بمثل هذه التزكيات القرائية. وحين يبتغون بناء الهوية القرائية، فقد يلوذون بهذا الصك الوجودي: “أنا أقرأ بكثافة جيدة، إذن أنا قارئ“. محصلة هولاء متنوعة، حيث تتنوع فئاتهم الفرعية وتتعدد سلوكياتهم، فمنهم مثلاً من يظن أنه أضحى خبيراً أو جديراً بهذا الموضوع أو ذاك، وهو في الغالب ليس بشيء يذكر في القراءة التراكمية والحصيلة المعرفية الممنهجة.
الفئة الثالثة: القراء المبعثرون / المثلومون:
هولاء لديهم رؤية ومنهج أيضاً، وقد يكونا جيدين أو معقولين، ليس ذلك فقط، بل لديهم قدر كبير من الجدية أو لنقل: “الإخلاص القرائي”، ولكن مشكلتهم الكبيرة تكمن في أنهم لا يمتلكون خطة توصلهم بأمان إلى تحقيق رؤيتهم وفق المنهجية التي يتبنونها. تتصف القراءة لدى هذه الفئة بكونها:
1- مجتزأة.
2- غير مكتملة.
3- فاوستية.
السمة الثالثة تعني أن هولاء القراء وإن كانوا يمارسون فرزاً جيداً إلى حد ما حيال النصوص المتاحة لهم مجاناً، إلا أنهم يخفقون في حالات عديدة في عمليات الفرز والقراءة، نظراً للوهم الذي يتلبس أكثرهم، والذي يتمثل في النزعة “الفاوستية” في القراءة والتعلم، حيث يظنون أنهم قادرون على الإحاطة بحقول معرفية كثيرة، أو أنهم مطالبون بأن يعرفوا هاته المعلومة وتلك الإحصائية وذلك التاريخ أو الحدث ونحو ذلك، الأمر الذي يفضي بهم إلى أن يكون الواحد منهم “مُنْبَتَّاً، لا أرضاً قطع ولا ظهْراً أبقى.” هويتهم القرائية تتشكل بقالب “أنا أنوِّع كثيراً في قراءاتي، إذن أنا قارئ جيد“.
القراء المبعثرون يبدعون في افتتاح الأقواس، بيد أنهم يخفقون في إغلاقها. ولهذا، نجد كثيرين منهم، يفشل في إتمام أعمال كتابية أو مشاريع حياتية كبيرة، ونعني بها تلك الأعمال والمشاريع التي تتطلب نَفَسَاً طويلاً. قد نجد من بين هولاء بعد سنوات طويلة نسبياً مثقفين أو كتاباً جيدين، ولكن نتاجهم لا يرتقي إطلاقاً للجهد الكبير الذي بذلوه في القراءة، مما قد يشعرهم بالمرارة، وربما أحالوا هذا الفشل إلى مجتمعاتهم التي تتنكر لهم، في مسلك هروبي سيكولوجي، يقوم على ما يسمى في علم النفس بضبط التحكم الخارجي External Locus of Control ، أي عزو النتائج السلبية إلى أطراف خارجية، بخلاف النتائج الإيجابية التي تعزى للذات.
القراءة الجادة صرخة في وجه طوفان يشتهي تجهيلنا
بعد هذا التطواف المختصر في الفئات القرائية، نعود إلى اللب في هذا النص، والمتمثل في مسألة عدم إتاحة العقل لأي نص عابر أو مجاني، وإنما السعي لإتاحة نص منشود لعقل متلهف، وذلك أنه لا حياة لنص إلا بروح قارئ. وهذا يعني أننا نتكئ على “قابلية قبلية” لدى القارئ، وذلك أن القارئ -برؤيته ومنهجه وخطته- موجود قبل النص المتاح، لا من زاوية وجودية مطلقة بل من زاوية وجودية نسبية. والقول بالنسبية هنا يعني أنني لا أقصد بأن القارئ موجود في ذاته قبل هذا النص بعينه – بالضرورة -، كلا، إذ من الممكن أن يكون النص سابقاً في الولادة والوجود الفعلي، وإنما أسبقية الوجود لدى القارئ حادثة من جراء امتلاكه “ذخيرة نفسفكرية”، وهذه الذخيرة تسبق حصول القارئ أو إطلاعه على النص، ومن هنا تتحقق أسبقية القارئ على النص، وهذه الذخيرة هي التي تلبسنا نظارات ملونة، بعدسات مقعرة ومحدبة، مما يجعلنا نحسن اختيار نصوصنا المقروءة وفق وجوديتنا نحن، لا وجوديتها هي.
لا بديل لنا عن القراءة الجيدة، نوعاً وكماً، إن نحن أردنا أن نبني مستقبلاً زاهراً لأوطاننا ومجتمعاتنا وللإنسانية بأجمعها. في العقل غرف معتمة، لا يدلنا على كنوزها غير قراءة ماهرة. إننا نعيش داخل صناديق مُحكَمة الغلق، لا شيء يفتحها سوى قراءة تراكمية نقدية. إن القراءة الجادة صرخة في وجه طوفان يشتهي تجهيلنا أو تسطحينا، ومن ذلك ترسيخ خرافة “اقرأ ما هو متاح لك”!