العلو منقصة وإفساد : علام يستكبر البشر ؟! بعضهم على بعض وهم من تراب ، يعتريهم الضعف والمرض ، ونهايتهم إلى التراب ؟ إنه نسيان الحقيقة الذي يولد التكبر والتجبر ويـُنتج الظلم والقهر والتسلط والإرهاب " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً ، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين "
وليتمكن الظالم من الناس يفرقهم شيعاً وطوائف ، ويستعدي بعضهم على بعض ، ثم يستعبد الضعفاء . ويزداد تعسفه وظلمه حين يظن أن فناءه على أيديهم ، فيتفنن في إيذائهم ، فيقتل الوليد الذكر ويستبقي الأنثى للخدمة . وهذا التفكير وهدة التصرف وقمة العسف .
لقد رأى فرعون فيما يرى النائم أن مولوداً من بني إسرائيل يكون سبب هلاكه . فأمر بقتل المواليد . فلما احتج الملآ من قومه قائلين : من يخدمنا إذا قتل الذكور ؟ أمر بقتل المواليد من الذكور سنة ، وترك من يولد منهم سنة .
- العاقبة للمؤمن : يقول الله تعالى في الآية 21 الحادية والعشرين من سورة المجادلة " كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" كتب : تفيد الإثبات والتأكيد ، كما أن الغلبة تأتي بعد المغالبة والصراع بين الحق والباطل ،والقسم وجوابه المؤكد بالنون تأكيدان قاهران فيهما حتمية انتصار الحق وأهله وانكسار الباطل وجنده . وفي هذه السورة ( القصص) تبدو إرادة الحق سبحانه تقرر :
أ- فضله على المستضعفين ووعدهم بما يريدون من عزة ورفعة
ب- وجعلهم القدوة للبشر والأسوة لهم ،
ج – أن الغلبة لهم في الأرض وأنهم يرثون الخلود في الجنة ،
د – وأن نهاية المتكبر الذل والعار وأن حذره لن يفيده :
{ ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض
ونجعلهم أئمة
ونجعلهم الوارثين
ونمكن لهم في الأرض
ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } .
- الخطة الإلهيّة : ولد موسى عليه السلام في السنة التي يقتل فيها الذكور من بني إسرائيل . فماذا تفعل الأم الخائفة على وليدها من مصيره المرعب الذي ينتظره ؟ ولدته في غفلة عن أعين الرقباء المتربصين بأمثالها ، المتابعين لكل مولود ، فإن كانت أنثى تركوها ، وإن كان ذكراً قتلوه أمام عينيها ! ظلم ما بعده ظلم – ما يزال المجرمون أمثال فرعون يفعلونه بشعوبهم حتى وقتنا هذا ، وإلى قيام الساعة - . يا رب ماذا أفعل بهذا الوليد ؟ وما ذنبه ليقتلوه ؟ .. يا رب أنت وليي ، فاهدني إلى حفظ ولدي . كانت أمه تدعو الله بقلب حزين كئيب ، وتنتظر دخول العسس بين لحظة وأخرى .. وكان الله تعالى يريد لهذا المولود العظيم أن يكون قائد أمته وأحد أنبيائه أولي العزم . وما أراده الله لا بدّ أن يكون ، فهو الذي يفعل ما يشاء ، سبحانه من إله عظيم .
أ- ولعل أول ما تفعله الأم حين ينزل ولدها وتنظر إليه بعينها وقلبها أن تضمه إلى صدرها الحاني وتقبله وتهدهده ، وتدعو له بالحياة السعيدة في الدنيا والآخرة ، و تلقمه ثديها ليستقي منه لبناً شهياً يغذوه ويطفئ ظمأه ويفثأ حر جوعته . هذا ما أوحى الله تعالى للأم الولهى أن تفعل " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ... " وستكون هذه الرضعة الأولى والأخيرة على خوف ! لأنها سترضعه آمنة مطمئنّة بعد ذلك ، فهو حين ذاق حليب أمه وعرف طعمه فلن يخطئه مرة أخرى ، ولن يرضى أن يتذوق حليب غيرها ، وسيأبى كل المرضعات إلا من أرضعته المرة الأولى ! فلبن الأم لا يعادله لبن الدنيا كله ، وستكون هذه الرضعة كلمة السر في التعرف على أمه ، فلتقر عينها ولا تحزن ، إن الله تعالى خطط للقائه السريع بأمه ، وسيعود إليها بإذن الله ، وتحضنه في قلبها وبين ذراعيها ... لن يكون لغيرها .
ب-هؤلاء الظلمة يشعرون أن الوليد دخل الدنيا ، وسيدهم أمرهم أن يقتلوا كل وليد خوفاً على نفسه أن يُقتل ، إنه الحذر الذي لا ينجي من القدر ، فما أراده الله كائن لا محالة ، فهل من مدّكر ؟! إن ذوي القلوب المتحجرة والعقول الضالة لا تفقه هذا ، ولا تفهمه ، قد ران على قلوبهم الظلم والظلام ، فلا يعرفون النور ولا يحبون الضياء . وكيف يحبونه وهم لا يدركونه؟ .. الجنود يقتربون من بيت الأم ، وهي خائفة لا تدري ما تفعل ، إلا أن الله تعالى جعل لها من الهم فرجاً ، ومن الخوف على وليدها مخرجاً ... ويتعجب الإنسان حين يعلم أن التخلص من الموت قتلاً إلقاء الوليد في تابوت صغير من الخشب ، يُرمى في نهر النيل العظيم وبين أمواجه تتقاذفه هنا وهناك فيغرق في الماء ليكون غذاء سمكة ، أو لقمة في فم تمساح ، أو تحمله المياه إلى مكان بعيد على الشاطئ ، فيتفسّخ وتذوب معالمه ، أو يلتقطه ذئب جائع أو كلب ضال !! لمَ الهرب من الموت إلى الموت ؟ إنه لأفرج على النفس أن يُقتل بين يديها فتحتسبه من أن يضيع فلا تدري له نهاية !! لكن الله تعالى مَن بيده الأمر كله أوحى إليها أنه سيعود إليها ، وهي المؤمنة به المتوكلة عليه الراغبة في فضله سبحانه ، إنه سيعود إليها ليكون خلاص بني إسرائيل من الظلم على يديه وسيكون له شأن عظيم .! إنها الرسالة ! وهل أكرم للإنسان من أن يكون رسول رب العالمين ؟! فلن تخاف عليه من الموت غرقاً أو ضياعاً ولن تحزن لفراقه فهو عائد إليها معزّزاً مكرّماً : " فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين . " .
ت-حين يختبئ المطلوب في مكان مراقب يُحصى فيه كل حركة وسكنة سرعان ما يقع في أيدي طالبيه حين يكون اختباؤه فطرياً عفو الخاطر وغير محكم . ، ولن يخطر ببال المتكبر المتجبر أنّ أم الطفل قد ترمي به في الماء إلا إذا طاش صوابها ، فسعت إلى حتف ابنها بيديها . فصدر الأمر الإلهي إلى الأم أن تفعل مالا يخطر على بال الظالم ، ووضع المهد الورقيّ – من ورق البردي – في الماء الذي حمله إلى قصر فرعون . فهل أمر بقتله ؟ هل هشّم جمجمته بقبضته؟ هل قطع رأسه وهو يضحك من سذاجة مَن ألقاه للموت في الماء؟ لا هذا ولا ذاك ، فمدبّر الأمر خطط ، وهو سبحانه أوصل الوليد إلى قصر عدوّه الأول ، فرعون المتأله المستكبر ليرعاه ويعتني به ، فيعيش هذا الوليد الذي حرص فرعون على قتل كل الأطفال ليتخلص منه ، فإذا بمكره وتدبيره لا ينفعانه ، وإذا بالمولود الذي صنعه الله على عينه يربيه فرعون بنفسه ، فيعيش موسى في أمن وسلام في عرين الظالم نفسه ويحوطه بعنايته ليكون هلاكه على يديه " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحَزَناً " وصدق من قال : " من مأمنه يُؤتى الحذر " .. فلم أراد الله هلاك فرعون وهامان وجنودهما ؟ لقد كانوا منغمسين في الكفر وغارقين في الظلم ، وراتعين في الفساد " إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين " وقد يتساءل بعضنا : لئن كان فرعون ووزيره هامان والغـَيـْنِ في الفساد إن جنودهما ينفذون الأوامر ، وقد لا يجرؤون على المخالفة ، فهم ليسوا سوى أدوات تنفذ الأوامر ، لا يملكون لأنفسهم إرادة التغيير أو الرفض ؟ والحقيقة أن للإنسان عقلاً وإرادة ينبغي أن يمنعاه أن يكون ظالماً أو فاسداً ، ومن كان أداة في الإفساد فهو والمفسد الكبير سواء " وقد سأل أحد السجـّانين الأمام أحمد فقال : يا إمام ؛ ما أنا إلا حارس يُؤمر فيطيع ، فهل أنا من أعوان الظالم ؟ قال إنما أنت من نسيج الظالم نفسه ، فهو يتقوّى بك ، ويضرب بسيفك . ومن أعان الظالم كان يوم القيامة في النار مع سيده ، واقرأ معي هذه المحاورة بين التابع والمتبوع في النار
" وإذ يتحاجـّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كلّ فيها إن الله قد حكم بين العباد " فالنار مثواهم جميعاً . وفي النار يدعو التابع على سيده بالعذاب الشديد لأنه كان سبب ضلاله وفساده ، لكنّ هذا لا ينفعه في تخفيف العذاب " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً " .
ث-يصل المهد الورقي – التابوت – إلى قصر فرعون ، وترى امرأة فرعون هذا الطفل الجميل فيه ، ويلقي الله تعالى حبه في قلبها ، فتطلب إلى فرعون أن يهبها إياه ، فلا يقتله إكراماً لها ، وهو يدري أنه من بني إسرائيل ، فملامح الإسرائيليين غيرها في القبط . وقالت لفرعون : دعه قرة عين لي ولك . ولم يكن لها ولد ، فأجابها إلى طلبها لكنه عقّب قائلاً " لئن يكن قرة عين لك فلن يكون قرة عين لي " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ( لَو قَالَ فِرعَون نَعَمْ لآمن بِموسَى ولَكَان قـُرَّة عَين لَه ) لكنّه محروم من الخير لظلمه وتكبره ، فقد آمنت امرأة فرعون بدعوة موسى وكانت من أهل الجنة ، أما فرعون فيسبق قومه إلى النار " يقدُم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الوِرد المورود " وقد صور الله تعالى ذلك الموقف الرائع حين ألقى الموج بمهد موسى بين يدي امرأة فرعون " وقالت امرأة فرعون قرةُ عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً " .
الهداية بيد رب السموات والأرض ، يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، نسأل الله تعالى الهداية ورضاه والجنة .
ج-رغبت الأم أن يحمله ماء النهر بعيداً عن المدينة وأهلها ، بعيداً عن فرعون وجبروته إلى مكان آمن لا يصل إليه ، ولـْيعش بعيداً عنها إلى أن يرزقها الله عودته فتى يا فعاً أو غلاماً جميلاً ، لكنها حين رأت التابوت يتجه نحو قصر فرعون خافت أشد الخوف ظانة في نفسها أنها سعت إلى حتفه بيديها ، وقلب الأم عطوف رحيم ، كاد يجعلها تعترف بالحقيقة أمام جنود فرعون ولـْيقتلوها ، فهي السبب في هذا المصير الذي ألقت ولدها فيه . اختلج جسمها ، ووهنت مفاصلها ، " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إنْ كادتْ لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين " . ورفعت رأسها إلى السماء تسأل الله تعالى العون وحسن الختام . وربط الله على قلبها ، فصبرت ، ومن لجأ إلى الله وصل إلى حصن حصين ، وملاذ أمين .
ح-حين يثبت القلب يفكر العقل تفكيراً سليماً ، وحين يضعف القلب يطيش العقل ويهذي . إنها حين لجأت إلى الله تعالى فثبّتها وهدّأ من روعها أمرت ابنتها أن تتابع على الطرف الآخر مسيرة أخيها ، وأمرتها أن تقترب من القصر تتشوّف الخبر ، وتطمئن على موسى . " وقالت لأخته قـُصـّيه فبصرت به عن جُنب وهم لا يشعرون ." ولـْتكن حذرة ، فلا تخبر أحداً أنه أخوها كي تأمن أسرتُها غائلة العقوبة . وهكذا فعلت ، فهي ذكية لبيبة أريبة أخت نبيين كريمين هما موسى وهارون ، وهي في الآخرة إحدى زوجات النبي الأعظم محمد عليه الصلاة والسلام مع آسية زوجة فرعون ، ومريم بنت عمران فهنّ رضوان الله عليهن بعض زوجاته في الجنة . جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيث رَوَاهُ الزُّبَيْر بْن بَكار أَنَّ رَسول اللَّه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لخدِيجَةَ : ( أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّه زَوَّجَنِي مَعَك فِي الْجَنَّة مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَكُلْثُوم أُخت مُوسَى وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن ) فَقَالَتْ : آلله أَخبَرَك بِهَذَا ؟ فَقالَ : ( نَعَمْ ) فَقَالَتْ : بِالرِّفَاءِ والبَنِينَ .
خ-لما أجاب فرعون طلب زوجته جيء له بالمرضعات ، فلم يتقبل لبن إحداهنّ ، لأن الصدر الذي ضمه أول مرة وشرب من ثدييه ليس منهنّ ، قالت امرأة فرعون: إنهنّ يتحايلن له ، وهو لا يلتقم أثداءهنّ ، ما العمل ؟.. وهنا يأتي دور أخته ، فتتلطف للملكة ، وتتقدم بثبات وجرأة ، تقول : " هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " ومن أكثر حباً وشوقاً ورغبة في موسى من أمه ؟! قيل لها نعم ، فأسرعت إلى أمها ، فجاءت ملبية مشتاقة متلهفة ، جاءته وَهُوَ يبكِي يَطْلُب الرَّضَاع , فَدَفَعَهُ فرعون إِلَيها ; فَلَمَّا وَجَدَ الصَّبِيّ رِيح أُمَّه قَبِلَ ثَدْيهَا وبدأ يرضع . فلما رأوه مقبلاً بنهم على لبن أمه قالوا لها: كَيف اِرتَضَعَ مِنك وَلَمْ يَرْتَضِع مِن غَيرك ؟ قَالَت توضح الأمر لتذهب ريبتـُهم : إِنِّي اِمْرَأَة طَيِّبَة الرِّيح طَيِّبَة اللَّبَن , لا أَكَاد أُوتى بِصَبِيٍّ إلا أقبل عليّ واِرتضَعَ مني صدقت في إجابتها ولم تكشف عن نفسها ، من الذكاء الأمني أن تجيب عن السؤال بأقل جواب ممكن .... ...
وهكذا ردّه الله تعالى إليها تحتضنه وتشمه وتربيه على عينها حتى شب فتى يافعاً مؤمناً بالله وحده لا شريك له . |
|
|
|