وقفات مع سورة المؤمنون
الحمدُ لله رب العالمين، أحمده وأستعين به وأستهديه وأستغفره، وأعوذ بالله من شر نفسي ومن سيئات أعمالي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهم صلِّ على سيدنا محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت ربَّنا على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أَيُّها الأحبة في الله؛ أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله جلَّ وعلا، امتثالاً لما أمرنا الله جلَّ وعلا به في القرآن فقال بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَï´¾ [آل عمران: 102]، وبعد:
لمَنْ الفلاح والنجاح في الدارين؟
أَيُّها الأحبة في الله، حديثي اليوم إلى حضراتكم يدور حول تفسير آيات من كتاب ربنا من صدر سورة المؤمنون.
يقول الله عَزَّ وَجَلَّ بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ï´؟قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَï´¾ [المؤمنون: 1 - 7].
أَيُّها الأحبة في الله، الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: ï´؟قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَï´¾ والفلاح هو السعادة في الدارين:
• السعادة في الدنيا: أن تعيش على طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ.
• والسعادة في الآخرة وهي: أن تنعم بجنة رب العالمين، ولذة النظر إلى وجه رب العالمين في الجنة إن شاء الله جلَّ وعلا.
الخاشعون في الصلاة:
ï´؟قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَï´¾ ما هو الخشوع؟
الخشوع: عبارة عن حضور القلب وسكون الجوارح لله رب العالمين، قلب حاضر يعي ما يقول؛ لأنه ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها[1]، بمعنى: أنك تدرك كل كلمة تنطق بها وأنت في صلاتك، فأنت حينما تقف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ وتقول: "الله أكبر" فهو أكبر من نفسك التي بين جنبيك، وأكبر من مالك، وأكبر من وظيفتك، وأكبر من مصالحك الشخصية وأكبر من كل شيء، فأنت حينما تستحضر هذا المعنى، معنى التكبير لله عَزَّ وَجَلَّ، فأنت قد دخلت أول مرحلة من مراحل الخشوع في الصلاة.
ثم بعد ذلك: «ï´؟الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَï´¾ حَمِدَني عَبْدي، ï´؟الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِï´¾ أثنى عليَّ عبدي، ï´؟مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِï´¾ مَجَّدني عبدي ï´؟إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَï´¾ هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل»[2]فحينما يستحضر المسلم معاني الفاتحة (فاتحة الكتاب) وهو بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ لا يقرأها بتكاسلٍ ورتابة، وإنما يقرأها بتأمل وتدبر وخشوع لله عَزَّ وَجَلَّ: ï´؟أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَاï´¾ [محمد: 24]، فإذا تأملت واستحضرت معاني الفاتحة وأنت بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ في الصلاة فهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الخشوع في الصلاة وأنت بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ.
وكان الخشوع في الصلاة من دأب الصحابة أجمعين، من دأب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان خشوع النبي في الصلاة يبدأ من قبل الصلاة، حينما يسمع المؤذن ينادي للصلاة، كانت أُمُّنا عائشة تقول: كان يكلمنا ونكلمه، وكان في خدمة أهله، حتى إذا أتت الصلاة فكأنه لا يعرفُنا ولا نعرفُه. فخشوع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يبدأ من الأذان من قبل الدخول في الصلاة أَيُّها الأحبة.
فالمسلم يحرص على أن يؤدي الصلاة بأركانها وشروطها وواجباتها، وأن يؤدي الصلاة أيضًا بروحها، وروح الصلاة كما تعلمون هو الخشوع؛ لأن الصلاة بلا خشوع تشبه - أَيُّها الأحبة، أضرب لكم مثالاً - الجسدَ بلا روح، فلو أن هناك جسدًا بلا روح فلا قيمة له، بل بالعكس دفنه في التراب أكرم له، لأنه جسد بلا روح، إذا تغير جسم الإنسان فتقول: الجثة، لماذا الجثة؟ لأن الروح خرجت منها، ويجب على الجميع أن يواريه في التراب؛ لأنه جسد بلا روح، فكذلك الصلاة أَيُّها الأحبة، إذا أديتها بأركانها وشروطها ومستحباتها وليس فيها خشوع، يقول: يا شيخ أؤدي الصلاة كما أمرني الله.. لا يا أخي، أنت تؤديها بالأركان والواجبات والمستحبات، ولكن ليس فيها روح، وهو الخشوع لله عَزَّ وَجَلَّ، فينبغي على المسلم أن يؤديها بأركانها وشروطها وكذلك بروحها.
الماسكون على ألسنتهم:
ï´؟قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَï´¾ [المؤمنون: 1 - 3] ما من يوم يصبح فيه الإنسان إلا والأعضاء كلها تكفِّر اللسان، وتقول له: يا لسان اتقِ الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت يا لسان استقمنا، وإن اعوججت يا لسان اعوججنا.
وهذا صِدِّيق الأمة الأكبر، الصِّديق أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كان يُمسك لسانه بيده ويقول: (هذا أوردني الموارد) أي: أوردني المهالك. فرد عليه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقال: (هوِّن على نفسك يا خليفة رسول الله) فقال: (هذا أوردني الموارد). فإذا كان هذا حال صِدِّيق الأمة، إذا كانت هذه الحالة العظيمة هي حالة صِدِّيق الأمة فما بالنا نحن أَيُّها الأحبة؟
والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حينما قال له معاذ: أَوَ إنَّا لمؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ هذا الكلام الذي نتكلم به، أَوَ إِنَّا لمؤاخذون بهذا الكلام؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يُكب الناس على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا من حصائد ألسنتهم؟»[3].
فإذًا الكلمة خطورتها عظيمة في الإسلام، هذه الكلمة بكلمة واحدة يتزوج الإنسان، وبكلمة واحدة يطلق الإنسان، وبكلمة واحدة يبيع الإنسان أو يشتري بلسانه، كلمة واحدة فقط، فإذا كانت هذه خطورة الكلمة، وبكلمة واحدة تدخل في الإسلام، وبكلمة واحدة تخرج من الإسلام. يا سبحان الله! الزواج بكلمة والطلاق بكلمة والإسلام بكلمة والكفر بكلمة؛ إذًا الكلام في الإسلام والكلمة في الإسلام لها خطرها العظيم؛ ولذلك يا إخواني الكرام لما كان أصحاب النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يسألون النبي عن النجاة، فهذا عقبة بن عامر قال: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لِسَانَك، وَلْيسعْك بيتك، وابكِ على خطيئتك»[4]، فهنا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل إلى أن يمسك عليه لسانه، وأخبره أن الإمساك عن كثرة الكلام هو من النجاة التي ينجو بها الإنسان في دنياه وفي أخراه.
ولذا قال الشاعر:
احـــــفـــــظ لـــســــانــــك أيـــــهــــــا إنـــــســــــان لا يـــــلــــــدغــــــنــــــك إنــــــــــــــــــه ثـــــــعـــــبــان
كـم فـي الـمـقـابـر مـن صَـريـع لـسـانـه كــانـــت تــهـــاب لــســانـــه الــشــجــعـــــــــان
وهذا الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ يقول:
إذَا شـــئْــــتَ أَن تَــحْـــيَـــا وديــــنــــك ســــالــــم وحــــظـــــك مـــــوفُـــــورٌ وعِـــــرْضُـــــكَ صَـــــيّـــــنُ
لِــسَــانـــكَ، لا تـــذكــــر بــــــه عــــــورة امــــــرئ فـــعــــنــــدك عَـــــــــوْرَاتٌ ولِــــلــــنَّــــاس أَلـــــسُــــــنُ
وعَـــيْـــنَـــاكَ إِنْ أَبْـــــــدَت إلــــيــــك مـــسَـــاوئًــــا فـصُـنْـهــا وقـــل: يـــا عَــيْــنُ لـلــنــاس أعــيُــنُ
وعَـاشِـرْ بـمَـعْـرُوفٍ وجَـانِـبْ مَـنِ اعـتَـدى وفــــــارقْ ولـــكــــنْ بـــالـــتـــي هـــــــي أحْــــسَــــنُ
إذًا أَيُّها الأحبة الكرام، المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وهذا معنى قول الله جلَّ وعلا: ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَï´¾.
المؤدون الزكاة:
ثمَّ يقول: ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَï´¾ فالزكاة فريضة أوجبها الله عَزَّ وَجَلَّ على الإنسان، وكما ذكرنا في كلمات سابقة، وقلنا: إن هناك زكاة المال وزكاة الزروع والثمار، وهناك زكاة الركاز والمعادن، وهناك زكاة الإبل والغنم، وإلى غيرها من أنواع الزكوات أَيُّها الأحبة، فالمسلم يحرص على أن يؤدي أيضًا فريضة من فرائض الله عَزَّ وَجَلَّ كالصلاة وكالصوم وكالحج، ألا وهي فريضة الزكاة.
والزكاة أَيُّها الأحبة، طُهرة لأموالك، وهي أيضًا إثبات دليل إيمانك بالله عَزَّ وَجَلَّ، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أُمِرْت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة»[5] وهي ركن من أركان الإسلام. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل معاذًا إلى اليمن، يقول: « ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ » - ادعهم أول ما تدعوهم إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»[6]. فإذًا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ هذا أن الزكاة تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقراء المسلمين.
وقال قبل ذلك العلماء الراسخون في العلم: والله لو أخرجت الأمة الإسلامية، أغنياء الأمة لو أخرجوا زكاة أموالهم كما أراد الله، ما وجدنا في البيوت عاطلًا، وما وجدت في الطرقات سائلًا. ألا فليتقِّ الله أغنياء المسلمين، وليخرجوا زكاة أموالهم كما أراد الله وكما أمر الله عَزَّ وَجَلَّ.
الحافظون لفروجهم:
ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَï´¾ أخي الحبيب، الله عَزَّ وَجَلَّ لم يجعل لك متنفسًا بالنسبة لهذه النعمة التي بين يديك إلا بالزواج أو مِلك اليمين، والزواج ينبغي على كل شاب لديه الاستطاعة المادية والجسدية أن يتزوج «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم»[7].
فالزواج قال بعض أهل العلم: إنه سُنَّة مؤكدة، وقال البعض الآخر: إن الزواج واجب، وقال ابن حزم الظاهري: إن الزواج فرض عين، لماذا قال ابن حزم الظاهري إن الزواج فرض عين؟ قال: لأن الزنا حرام ومن أكبر الكبائر عند الله، وأن أي إنسان سواء كان متزوجًا وزواجه لا يحصنه بالقدر الكافي أو أن شابًّا فتيًّا أعزب ويخشى على نفسه الوقوع في العنت (والعنت هو الزنا)، قال: يجب عليه، بل فرض عين عليه أن لا يبيت ليلته من غير زواج، فرض عليك ألا تبيت هذه الليلة إلا وأنت متزوج بالقدر الذي تحصن به نفسك. وحجة ابن حزم الظاهري: أن الله عَزَّ وَجَلَّ قال: ï´؟فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِï´¾ [النساء: 3]، قال: انكحوا فعل أمر، وفعل الأمر يفيد الوجوب ما لم تأتِ قرينة تصرفه من الوجوب إلى الندب. واستدل أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج».
إذًا يرى جُلُّ أهل العلم أن من خشي على نفسه الوقوع في الزنا فيحرم عليه أن يبيت ليلته من غير زواج؛ لأن في الزواج عفة، ولأن في الزواج طهارة، ولأن في الزواج نقاءً، وما من مجتمع يكثر فيه الزواج إلا وكثرت فيه العفة، وما من مجتمع - العكس بالعكس - يقل فيه الزواج إلا وتكثر فيه الرذيلة - عياذًا بالله رب العالمين -. المجتمع الذي تكثر فيه نسبة العنوسة، ويكثر فيه عزوف الشباب عن الزواج، الشباب يعزف عن الزواج، يترك الزواج، يهجر الزواج، يقول: ما لي وللزواج؟ وأنا هنا أذكِّر بمقولة مهمةة جدًّا لعمر بن الخطاب: (لا يمنع الإنسان عن الزواج إلا أمران) لا يمنع الإنسان المسلم القوي الفتي عن الزواج إلا أمران: عجز، أو فجور. إما أن يكون عاجزًا من الناحية الجسدية أن يقوم بحقوق الزوجية وإما أن يكون فاجرًا له متنفس من الحرام، فهو زهد في الحلال بما يأتيه من الحرام، احفظ المقولة هذه وحفظها لأبنائك من بعدك، فوالله لقد انتفعت بها أنا في حياتي، وهي: أنه لا يمنع الإنسان عن الزواج إلا عجز أو فجور، نسأل الله أن يرزق شباب المسلمين العفة والحصانة اللَّهم آمين.
ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَï´¾ من أجل هذا حرَّم الإسلام العادة السِّريَّة، وحرَّم الإسلام كل أنواع وكل صور الزواج الباطلة؛ فنكاح المتعة حرام، والنكاح الذي لا يتوفر فيه موافقة ولي الزوجة حرام «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»[8]، «وأيُّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل»[9] ثلاث مرات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أَيُّها الأحبة، ينبغي للمسلم أن يحرص على أن ييسر الزواج، فأنا سُئلت ذات مرة عن زوجة أسقطت النفقة، قالت: لا أريد نفقة منك أَيُّها الزوج، ولا أريد منك سكنًا، ولا أريد منك أن تعدل بيني وبين زوجتك الأولى في المبيت، يعني: أسقطت النفقة والسكنى والمبيت والكسوة، قالت: لا أريد منك شيئًا، وإنما أريد منك يعني: المرأة عندها بيت وعندها راتب تعيش منه ولا تريد من زوجها أو المتقدم لخطبتها أن يعدل بينها وبين زوجته الأولى، وهي أسقطت جميع الحقوق، قالت: يكفيني يوم في الشهر أو يوم في الأسبوع، وقالوا: أن هذا يسمى زواج المسيار، وسألوني عن هذا؟
فقلت لهم بما درست وبما سمعت وبما قرأت: إنه إذا وافق ولي هذه المرأة والدها أو وكليها كأن يكون عمها أو أحدًا من العصبة أن يوافق على هذا الزواج، ولي المرأة موافق والمرأة موافقة برضاها ولا يوجد مانع شرعي، المانع الشرعي كأن تكون المرأة في العدة أو أن تكون المرأة على ذمة رجل، أو أن تكون هذه المرأة رضيعة له، يعني: ليس هناك مانع شرعي؛ إذًا موافقة المرأة وموافقة ولي المرأة، وهناك مهر أو صداق وإن قل؛ فالزواج صحيح؛ لأن هناك شهودًا، وهناك عقد شرعي، وربما يكون موثق في المحاكم الشرعية، فما المانع إذًا؟ وهذا الرجل خيرٌ لها من أن تعيش حياتها حياةً بائسةً مكتئبة؛ لأن بعض أخواتنا من العوانس.. وأنا يحزنني أن أعبر بهذا اللفظ وهذا التعبير! وإنما هذا التعبير هو صرخة في آذاننا جميعًا لننتبه لهذه الشريحة العزيزة علينا جميعًا، فربما تكون هذه الأخت التي فاتها قطار الزواج أختي أو أختك أو ابنتي أو ابنتك، فالأمر محزن أَيُّها الأحبة، وأنا والله منذ زمنٍ بعيد وحينما أعلم أن أحد إخواننا له مثل هذه الأخت أو مثل هذه الحالة إلا وأحرص أن أبحث لها وأن أكون شفيعًا وأن أتدخل وأن أتوسط؛ لأني أعلم أن هناك حالات من الانتحار -أقولها وبمرارة أَيُّها الأحبة- حالات من الانتحار لهؤلاء الأخوات بسبب أن لها أخًا يستحي أو أب يستحي أن يطلب الرجل الصالح لأخته، وقد فاتها قطار الزواج أَيُّها الأحبة.
ويا أخي لك في عمر بن الخطاب أسوة، حينما أخذ يبحث عن زوجٍ لحفصة ابنته، بعد وفاة زوجها حُذافة بن خنيس شهيدًا في غزوة أحد، أخذ عمر يعرض حفصة على النبي وعلى أبي بكر وعلى عثمان... ويَقبلها النبي صلى الله عليه وسلم، إذًا ليس بعيبٍ أَيُّها الحبيب، أن تعرض الأمانة التي عندك على الصالحين، وهذا الأمر موجود بين أهل العلم وبين الصالحين، يعرضون بناتهم على الشباب الصالح التقي، زوِّج ابنتك للتقي فإنه إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إلا على الأزواج أو ما ملكت اليمين:
ï´؟ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ï´¾ [المؤمنون: 5، 6] ملك اليمين أَيُّها الأحبة، هناك بعض الناس يفهم ملك اليمين فهمًا خاطئًا، فملك اليمين حينما حدثت الفتوحات الإسلامية بكتاب الله وبسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتفتح الطريق أمام الدعوة الإسلامية، فمن أبى قد يؤسر وتسبى بعض حرائرهم وتكون سبيًا لبيت مال المسلمين، ولخليفة المسلمين أن يوزع هؤلاء على جنده وعلى جيوشه، فمن أسلمت منهم أُعتقت، ومن أنجبت أعتقها ولدها، إلى غير ذلك، وقد تفتدي المرأة نفسها.
ï´؟ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ï´¾ [المؤمنون: 5 - 7].
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهم صلِّ على سيدنا محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت ربنا على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أَيُّها الأحبة في الله؛ ï´؟إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَï´¾، كلمة ï´؟فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَï´¾ أي: المتجاوزون لحدود الله عَزَّ وَجَلَّ، فمن تجاوز الحلال إلى الحرام فهو معتدٍ على حدود الله عَزَّ وَجَلَّ.
الراعون لأمانتهم وعهدهم:
ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَï´¾ أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك؛ لأن حبيبك محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يُلقب قبل البعثة بالصادق الأمين، فالأمانة دليل الإيمان، لا إيمان لمن لا أمانة له. والمسلم يا إخواني الكرام، لا يخون الأمانة؛ لأن من يخون الأمانة عقابه أليم وشديد غدًا بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ، أن يؤتى بالأمانة يوم القيامة ويلقى بها في أعماق جهنم، ويؤمر خائن الأمانة أن يهبط حتى يأتي بالأمانة، فينزل إلى أعماق أعماق جهنم في الدرك الأسفل من النار، حتى إذا أتى بالأمانة وصعد من تلك الهاوية يُضرب بمطرقةٍ من حديد فوق رأسه فتهوي الأمانة من يده إلى أعماق أعماق جهنم، ثُمَّ يؤمر أن ينزل مرةً أخرى ليأتي بتلك الأمانة، وهكذا أَيُّها الأحبة... فكما حيَّر الناس في الدنيا على أموالهم، وكما حيرهم على أداء الحقوق إلى أهلها فالجزاء من جنس العمل يوم القيامة، يؤمر أن يأتي بالأمانة ولا يستطيع أن يفعل ذلك.
من هنا أَيُّها الأحبة، كلٌّ منا يرد الأمانات إلى أهلها: ï´؟إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَاï´¾ [النساء: 58] قبل أن يكون يوم لا ينفع فيه درهم ولا دينار، ويكون الإنسان من المفلسين، المفلس يوم القيامة مَن يأتي وقد شتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته يؤخذ من سيئات خصومه ويوضع على سيئاته فيلقى به في جهنم.
فالمسلم يا إخواني الكرام، يحرص على أن يؤدي الأمانات إلى أهلها، وأكتفي بهذا القدر من تفسير صدر سورة المؤمنون.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، اللَّهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، واجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، اللَّهم لا تجعل فينا ولا بيننا ولا حولنا شقيًّا ولا مطرودًا ولا محرومًا، اللَّهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، واجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، اللَّهم لا تجعل فينا ولا بيننا ولا حولنا شقيًّا ولا مطرودًا ولا محرومًا، اللَّهم لا تجعل لنا في هذا الجمع المبارك ذنبًا إلا غفرته ولا همًّا إلا فرجته، ولا مظلومًا إلا نصرته.
اللَّهم يسر الزواج لشباب المسلمين، ويسر الزواج لبنات المسلمين، اللَّهم اجعل أبناءنا جميعًا من حفظة القرآن الكريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأنا إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ مستمر معكم في خطبة الجمعة في هذا المسجد المبارك، وإن دخلت في قلوبكم فأنتم في القلب جميعًا إخوان أعزاء، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
[1] قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (14/ 1026)، رقم: (6941): (ليس للعبد من صلاته إلا ما عَقَلَ منها) لا أصل له مرفوعاً. وإنما صح موقوفاً عن بعض السلف.
[2] أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 296)، كتاب الصلاة، بَابُ وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْفَاتِحَةَ، وَلَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُهَا قَرَأَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، رقم: (38).
[3] أخرجه أحمد في مسنده ط الرسالة (36/ 344)، حديث معاذ بن جبل، رقم: (22016). صححه شعيب الأرناؤوط.
[4] أخرجه بلفظه الطبراني في المعجم الكبير (17/ 270)، رقم: (741)، والترمذي في سننه ت شاكر (4/ 605)، رقم: (2406)، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ»، قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/ 859).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 14)، كتاب الإيمان، بَابٌ: ï´؟ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ï´¾ [التوبة: 5]، رقم: (25).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 104)، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، رقم: (1395).
[7] أخرجه البخاري في صحيحه (7/ 3)، كتاب النكاح، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، لِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لاَ أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ "، رقم: (5065).
[8] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 142)، باب مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ، رقم: (299). صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1254)، رقم: (7557).
[9] أخرجه أحمد في مسنده ط الرسالة (42/ 199)، مسند الصديقة عائشة بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، رقم: (25326). صححه شعيب الأرناؤوط. |
|
|
|