فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟.
أما يستحي العبد بعد علمه بهذا من معصية مولاه الذي رزقه وكساه، وأنعم عليه وهداه؟.
إن الذي يملك الخلق والإيجاد، والتدبير والتصريف هو الله وحده، فهو الرب الحق، الذي أنزل الحق، والحق واحد لا يتعدد، ومن تجاوزه وقع في الباطل.
ألا ما أعجب الإنسان كيف ينصرف عن ربه وهداه مع أن دلائله قائمة في الكون: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}[يونس: 32].
والله جل جلاله هو الذي: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}[الروم: 19].
إنها عملية دائبة لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان في هذا الكون، على سطح الأرض، وفي أجواء الفضاء، وفي أعماق البحار.
ففي كل لحظة يتم هذا التحول، وفي كل لحظة يخرج الله حياً من ميت، وميتاً من حي.
وفي كل لحظة يخرج الله برعماً ساكناً من جوف حبة أو نواة، يفلقها ويخرج إلى ميدان الحياة مع الأحياء.
وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة، تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام، وفي هذا الهشيم والحطام ترقد الحبوب الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات مستقبلاً.
وفي كل لحظة تدب الحياة بأمر الله في جنين إنسان أو حيوان أو طائر، وفي كل لحظة تخرج أجيال بقدرة الله في مشارق الأرض ومغاربها، وتموت أجيال كذلك .. فسبحان الحي الذي يملك الموت والحياة .. فيحيي ويميت من شاء من خلقه .. أمم وخلائق تستقبل الحياة .. وأمثالها تودع الحياة.
والله على كل شيء قدير أخرج من التراب الساكن الميت، الإنسان الحي المتحرك كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)}[الروم: 20].
وهو سبحانه الذي خلق البشرية من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وخلق كلاً منهما على نحو يجعله موافقاً للآخر، وأودع نفوسهم العواطف والمشاعر، وجعل في تلك الصلة سكناً للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، وطمأنينة للرجل والمرأة على السواء: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}[الروم: 21].
وهو سبحانه القدير الذي خلق السموات والأرض، هذا الخلق الهائل العظيم الدقيق، وخلق هذه المخلوقات العظيمة في جو السماء من الأفلاك، والمدارات، والنجوم، والكواكب، والمجرات، مع الضخامة الهائلة، والتناسق العجيب فيما بينها، وخلق ما بينها من المسافات والأبعاد التي تحفظها من التصادم والخلل، هذا من ناحية أحجامها وسيرها.
وأما أسرار هذه الخلائق الهائلة، وعجائبها وطبائعها، وما يستكن فيها، وما يظهر عليها، فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان، وحتى الآن لم يعرف عنه البشر إلا القليل: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)[نوح: 15، 16].
وفي الأرض آيات وكائنات وعجائب لا يحيط بها إلا الله، من سهول وجبال، وتراب ومياه، ونبات وحيوان، وجواهر ومعادن خلقها الله بقدرته، مختلفة الأحجام والألوان، والطبائع والمنافع.
فهذه قدرته سبحانه في خلق سماء واحدة، وأرض واحدة، فكيف بخلق السموات السبع وما فيهن، وكيف بخلق الأرضين السبع وما فيهن؟: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [الروم: 22].
ومع آية خلق السموات والأرض العجيبة اختلاف الألسنة والألوان بين البشر مع اتحاد الأصل والنشأة وصفة الخلق.
فكم لسان في العالم .. وكم لغة في العالم .. وكم لهجة في العالم .. وكم ألوان البشر في العالم .. وكم صورة وشكل لكل بشر في العالم.
فقلما يشتبه رجلان أو امرأتان في العالم.
فسبحان الخالق البارئ المصور الذي فاوت بينهم في الأشكال والألوان والأحجام واللغات والأصوات والأسماع والأبصار والعقول.
وهو سبحانه الذي خلق الليل والنهار، وسخرهما للإنسان، فجعل حاجة العباد إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار، وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام، مثلهم مثل جميع الأحياء التي تعيش على ظهر هذه الأرض بنسب متفاوتة، وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}[الروم: 23].
وهو سبحانه الحي القيوم، قيوم السموات والأرض، وقيام السموات والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بأمره سبحانه، وكل من في السموات والأرض خاضعون لله، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}[الروم: 25].
وهو سبحانه الذي له المثل الأعلى في السموات والأرض، فهو وحده الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا يشاركه في ذلك أحد، وليس كمثله شيء: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27].
يا حسرة على المفرطين كم آتاهم الله من آية بينة فلم يستجيبوا .. ؟
واعجباً لهؤلاء أما لهم في الآخرة من نصيب .. ؟
يا غافلاً ما يفيق، يا حاملاً ما لا يطيق، ألا تستحي؟ .. ، ألا تفيق .. ؟.
وا أسفاه على ضياع الأوقات .. وبعثرة العمر .. وبعثرة الفكر .. وبعثرة الجهد .. أحياناً في الشهوات .. وأحياناً في اللهو .. وأحياناً في اللعب .. وأحياناً في التكاثر .. وأحياناً في المحرمات .. وأحياناً في الكبائر الموبقات.
أي بضاعة يفخر بها مثل هؤلاء الحمقى أمام الله وخلقة يوم القيامة .. ؟.
وأي أرباح يجني أمثال هؤلاء؟ .. وأي سوق يعمرهؤلاء الحمقى .. ؟.
أيظن الغافل الأحمق أن الحياة لعب ولهو، لا سؤال ولا حساب .. ؟.
إنه يملأ صحائفه بمخازٍ وقبائحَ يسودّ لها وجهه يوم يلقى ربه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}[المؤمنون: 115].
إن نظرة إلى السموات والأرض وما فيهما من الآيات والعجائب، ونظرة إلى هذه الأجرام والكواكب والنجوم التي لا تحصى وهي منتثرة في ذلك الفضاء الهائل الذي لا تعلم له حدود، وكلها قائمة في مواضعها، تدور في أفلاكها، محافظةً على مداراتها تسبح بحمد ربها، وتؤدي وظيفتها، وكلها لا تختل ولا تبطئ ولا تسرع، بل تسير حسب أمر ربها، جاريةً في الفضاء ما يمسكها إلا الله.
ونظرة في عالم الجماد وأنواعه .. وفي عالم الحيوان وأشكاله .. وفي عالم الإنسان وعجائبه .. وفي عالم النبات وأنواعه وثماره.
إن نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية، والقوة الإلهية القاهرة القادرة على خلق هذه المخلوقات، وحفظها وإمساكها وحفظ توازنها: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}[فاطر: 41].
إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله، ومن شر في الأرض وفساد، ومن ظلم في الأرض وطغيان، إن هذا كله لفظيع شنيع، ولو يؤاخذ الله الناس به عاجلاً لتجاوزهم إلى كل حي على ظهر هذه الأرض، ولأصبح الكون غير صالح للحياة، ولكن الله حليم لا يعجل على الناس، فيؤخرهم إلى أجل مسمى، ليبلغوا آجالهم المقدرة، ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعاً: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}[فاطر: 45].
وهذا كله يكشف عن حلم الله ورحمته، إلى جانب قوته وقدرته ورقابته.
وإمهال الناس في الدنيا عن حلم ورحمة، لا يؤثر في دقة الحساب، وعدل الجزاء في النهاية، فإذا جاء أجلهم وانتهى وقت العمل والكسب، وحان وقت الحساب والجزاء، فإن الله لا يظلمهم شيءاً، وهو كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم، ولا تفوت منهم ولا عليهم كبيرة ولا صغيرة: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}[الأنعام: 160].