إن في خلق الشمس آية .. وفي نورها آية .. وفي حركتها آية .. وفي اشتعالها آية.
إن هذه الكتلة الهائلة الملتهبة، والتي يخرج منها هذا النور العظيم، وهذه الحرارة الموزونة، وبهذا النور وبهذه الحرارة تجري بأمر الله في مسارات مختلفة في فضاء هذا الكون العظيم، وهي مأمورة مدبرة، سامعة مطيعة: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} [يس: 38].
إن ذلك كله يدل بلا شك على كمال قدرة الله الذي يصرف هذا الوجود عن قوة وعلم وحكمة.
إن رؤية الآيات الكونية، وتدبر الآيات القرآنية، كفيل بتحريك القلوب، واستجاشة الشعور، لتعظيم بارئ الوجود وعبادته وطاعته.
فسبحان من خلق هذا الكون، ومن يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويقهرها على ما يريد، ويخرج منها المنافع على مدى الدهور والأزمان.
فلكل نجم أو كوكب فلك يدور فيه لا يتجاوزه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة مقدرة، والكل يسير بأمر الله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40].
إن حركة هذه الأجرام الهائلة في الفضاء أشبه بحركة السفن في البحار الواسعة، وهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطة سابحة في ذلك الفضاء الواسع، الذي خلقه الواسع العليم.
فسبحان من أمسك هذه وهذه .. وسيّر هذه وهذه.
وما أعظم من خلق هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة، ونثرها وسيّرها في ذلك الفضاء الفسيح.
والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، يخلق ما يشاء، ويستوي عنده خلق الكبير والصغير، ولا يختلف عنده في التكوين شيء عن شيء، سواء كان هذا المخلوق سماءً أو أرضاً، أو ذرة أو جبلاً، أو قطرة أو بحراً، أو بعوضة أو فيلاً، أو نملة أو جملاً.
خلق هذا وذاك عند الله سواء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
فليس هناك أمام قدرة الله صعب ولا سهل، ولا قريب ولا بعيد، ولا صغير ولا كبير، فتوجه الإرادة لخلق شيء كافٍ لوجوده كائناً ما كان: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83].
إن آيات الله الدالة على عظمته، وعلى قدرته، وعلى عظمة خلقه، موجودة منذ بداية الخلق، وجميعها تنبئ بعظمة الخالق جل جلاله، وتجذب الإنسان للانقياد لربه، والتسليم له، والتسبيح بحمده.
ثم يعطي الله سبحانه عطاءً متجدداً بعد ذلك لكل جيل غير الجيل الذي قبله، وذلك ليعلم الناس أن الله سبحانه قائم على ملكه، لا يتخلى عنه لحظة واحدة، وأن له عطاءً متجدداً كل يوم، بل كل ساعة، بل كل لحظة، حتى لا يحس البشر أن الله سبحانه خلق هذا الكون العظيم، ثم تركه بعد ذلك يعمل بالأسباب وحدها.
بل لا بد مع السنن الكونية التي خلقها الله، وسير بها هذا الكون، وجعلها تعمل بأمره، لا بد مع ذلك من ظهور قدرة الله التي تكشف وتعطي وتمنح، وتذكر الناس بأن الله ينصر الضعيف على القوي، والمظلوم على الظالم، حتى لا يستشري الفساد في الأرض، وحتى لا يتعلق الناس بالأسباب من دون الله.
فلله سنة، وله قدرة، وهذه القدرة لا تظهر إلا حين لا تكون فئة من المؤمنين تجاهد في سبيل الحق.
فإن كانت هذه الفئة موجودة، فإن الله يبارك في عملها، وينصرها حسب سنته في نصر أوليائه بالأسباب المعلومة من الإيمان والتقوى والإعداد حسب الاستطاعة.
أما إذا لم تكن هذه الفئة موجودة، فإن يد القدرة تأخذه أخذاً مباشراً، لتنزع ظالماً من قوته وسلطان ظلمه، أو تزيح جباراً في الأرض، فتنزعه من أسباب جبروته، أو تهلك عدواً ظالماً طاغياً، وتريح الناس من شره وطغيانه كما قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40].
ذلك أن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا، وخلق لها السنن والأسباب لتعمل بها بأمر الله وإذنه، فإذا حدث شيء عن طريق الأسباب كأن انتصر قوي على ضعيف، أو تمكن ظالم من مظلوم، أو ساد ذو جاه أو ذو قوة، أو ذو مال، فهذا باب السببية الذي تسير عليه الحياة في عمومها، والذي نشترك فيه جميعاً.
فالإنسان مثلاً لكي يحصل على المال يجب أن يعمل، فإذا عمل وأخذ الأجرة، فهذا شيء عادي لا يثير العجب.
ولكن الله أحياناً يوقف باب الأسباب، ويعطله فلا يعمل، ويفتح للإنسان باباً آخر، ليرى منه قدرة ربه، ويحس بعظمته، ويعلم أن قدرة الله فوق الأسباب.
فحين تقف أمام قوي تقول كل الأسباب أنه سينتصر عليك، ثم تجده ينهزم أمامك وينهار فهذه قدرة الله.
وحين يراد بك سوء، وتتحكم أسبابه، ثم يكشفه الله ويدفعه عنك بلا جهد منك، فهذه قدرة الله جاءت تذكرك بالله.
وحينما تكون في عسرة من الرزق، ثم يفتح الله لك باباً من الرزق من حيث لا تدري ولا تعلم، ويأتيك الرزق من حيث لا تتوقعه، فتهتف قائلاً: الله أكبر، إنها قدرة الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3].
وظهور قدرة الله ليست وقفاً على أحد دون أحد، بل هي تظهر في حياة الناس كلهم.
فكلنا رأى ظهور قدرة الله في فترة من فترات حياته.
رآها في شفاء مريض يئس الأطباء من علاجه .. أو رزق جاء فجأة ليذهب حالة عسر لبائس معدم .. أو قصم جبار أيس الناس من مواجهته.
ولكن لماذا يرينا الله ذلك في الدنيا؟
إن الله يفعل ذلك حتى لا ييأس المؤمن أبداً، فإذا توقفت الأسباب عن العطاء، فإن الله سبحانه وتعالى يفتح باباً من أبواب رحمته، ومن هنا فإن المؤمن عندما تصل به الأسباب إلى طريق مسدود، فإن الله معه يراقبه، فإن توجه إليه وسأله فرج كربته، وقضى حاجته، فليرفع كفيه إلى السماء ويقول: يا رب، ويعلم أن الطريق الذي سدته الأسباب يفتحه الله بقدرته التي تملك الأسباب، والله يفعل ما يشاء بالأسباب، وبدون الأسباب، وبضد الأسباب.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن أمثلة كثيرة من هذا ظهرت فيها كمال قدرة الله سبحانه، وذلك حتى نمضي في الحياة بلا يأس.
فقال عن أيوب - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83، 84].
وقال عن يونس - صلى الله عليه وسلم -: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88].
وقال عن زكريا - صلى الله عليه وسلم -: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90].
وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وضع زوجته هاجر وابنه إسماعيل عند بيت الله بمكة بواد غير ذي زرع وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}[إبراهيم: 37].
ثم تركها وابنها، فارتاعت المرأة حيث تركها وحدها في مكان قفر لا ماء ولا زرع ولا إنسان، فنادته مراراً فلم يجبها، فَقالتْ: «يَا إِبْرَاهِيمُ، أيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقالتْ لَهُ ذلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقالتْ لَهُ: آللهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذَا؟ قال: نَعَمْ، قالتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ». أخرجه البخاري (1).
وهناك كان طريق الأسباب معطلاً، حيث لا ماء ولا نبات ولا إنسان، فهاجر وابنها حسب الأسباب الظاهرة هالكان لا محالة، ولكن هاجر أخذت بالأسباب، فانطلقت تسعى بين الصفا والمروة، تصعد على هذا التل، ثم تصعد على ذلك التل، عسى أن ترى إنساناً أو طيراً أو قافلة أو سبباً من أسباب الحياة تتمسك به، وتستفيد منه هي وابنها، وقطعت المسافة سبع مرات بين الصفا والمروة ولم تجد شيءاً، ولم تر أحداً.
فنال منها التعب، فجلست بجوار وليدها عند البيت، فإذا الملك يضرب بجناحه الأرض، فظهر الماء بأمر الله، وانفجر بئر زمزم بالماء، فجعلت تحوطه وشربت هي وابنها، ودَّبت الحياة في ذلك المكان، فبعد بذل الأسباب الممكنة ظهرت قدرة الله في الوقت الذي تعطلت فيه الأسباب.
وموسى - صلى الله عليه وسلم - خافت أمه أن يذبحه فرعون ورجاله، وكان من الممكن أن تخفيه في دار أو مغارة، أو تسافر به سراً من مصر، وكانت هذه هي طريقة النجاة المعروفة بين الناس.
ولكن الله القدير أراد أن يجعل من قصة موسى - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى يدل على كمال قدرته سبحانه، بأن ينجيه بأسباب الهلاك لا بأسباب النجاة، ليعلم الناس أن الله على كل شيء قدير، يظهر قدرته سبحانه بالأسباب، وبدون الأسباب، وبضد الأسباب.
فأوحى سبحانه إلى أم موسى أن تضعه في الصندوق، وتلقيه في الماء، ليكون هذا هو السبيل لنجاته وحفظ حياته، وسيراه الناس جميعاً، فالواقف على شاطئ البحر يتطلع للظفر به، فكأنما هذا إعلان لا إخفاء، ومع ذلك جعل الله هذا الإعلام هو عين الإخفاء، وهو وإن سلم من أكل الطير أو الغرق في النهر فسيأخذه لا شخص يحفظه ويربيه، بل سيأخذه عدو لله وعدو له، ولكن الله أراد نجاته وحفظه على يد من يريد هلاكه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}[القصص: 7].
ألا ما أعظم قدرة الله، لقد أخذه فرعون، ورباه في قصره على يد امرأته كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 37 - 39].
ثم أرسل الله موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى فرعون وملئه، فلم يؤمنوا بما جاء به، فأهلكهم الله وأغرقهم في البحر كما قال سبحانه: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40].
وهكذا أظهر الله قدرته في مواقف كثيرة في حياة موسى مع فرعون، ومع بني إسرائيل، وأظهر قدرته بضد الأسباب.
والله عزَّ وجلَّ يعرض لنا هذه الأحوال التي جرت للأنبياء، وأظهر الله فيها قدرته في حفظهم ونصرتهم، تثبيتاً للمؤمنين على الإيمان، وليستفيدوا هم كذلك من قدرة الله بالايمان والتقوى كما استفاد الأنبياء والرسل.
وليس معنى هذا ألا نأخذ بالأسباب المشروعة، ولا نعمل منتظرين ظهور قدرة الله، بل إن ظهور قدرة الله لا تتم إلا إذا استنفذ الإنسان الأسباب أولاً، فإذا فرغ الإنسان من فعل الأسباب المأمور بها ولم تعطه شيئاً، رفع يديه إلى السماء، ولهذا يقول الله سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}[النمل: 62].
والمضطر هنا هو الذي يستنفذ أسباب الدنيا، ولا يجد أمامه مخرجاً، وهذا هو الذي تنفتح لدعائه أبواب السماء.
والله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده، ليعلم من يتوجه إليه عند المصائب، وليعلم صدق العبد، وقوة إيمانه، وقوة صبره، وهذه الاختبارات الإيمانية هي الأساس، ليزيل الله الضيق، ويذهب الهم، ويفرج الكرب، ويظهر قدرته لعباده.
فحين لا يقف للباطل والطغيان أحد، يظهر الله قدرته في تدميره بما شاء، حتى لا يعم الفساد في الأرض، فحين جاء أبرهة بعدد ضخم من الجنود والأفيال ليهدم الكعبة، وخرج سكان مكة إلى الجبال تاركين البيت الحرام، لأنهم لا يستطيعون أن يقفوا أمام أبرهة وأفياله وجنوده وجيشه الجرار، وهنا تخلى أهل مكة عن قضية حق، وهي حماية بيت الله الحرام ممن يريد أن يهدمه، فماذا فعل الملك الجبار جل جلاله؟
هنا أراد الله سبحانه أن يريهم أن أبرهة الجبار الذي يخشونه، والجيش الجرار الذي يهابونه، هو عند الله لا يساوي شيئاً، ويعلمهم أن صاحب الحق الضعيف يجب أن لايخاف من الباطل القوي.
ولهذا جاء الله جل جلاله بالطير الصغير الضعيف ليقول للبشر أن أضعف مخلوقاتي سيهزم هذا الجيش الجبار ويمحقه، ويقوم بنصرة الحق إذا تركتموه كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 1 - 5].
وانطلقت الطير بأمر الله تحمل حجارة صغيرة من سجيل قضت على الفيلة الجبارة، والجيش الجبار في زمن قصير، وحطمت الجيش تماماً، وظهرت قدرة الله في حفظ بيته من الجبابرة المعتدين.
ألا ما أعظم قوة الله، وما أعظم قدرته، وما أعظم خلقه وأمره: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}[الحج: 74