بساطة العيش
للأستاذ أحمد أمين
تعجبني الحياة البسيطة لا تعقيد فيها ولا تركيب، وأكره ما أكره التكلف، والتصنع، وتعقيد الحياة، وتركيبها.
ويظهر أن المدينة والحضارة تميل دائماً إلى تعقيد الحياة وتركيبها،
وكلما قرأت في الحضارات المختلفة _ رومانية، أو إسلامية، أو أوربية حديثة _ وجدتها جميعاً تتشابه في الميل إلى التعقيد والتركيب، والإسراف في البذخ، والترف، والرفاهية،
ففي الحضارة الإسلامية _ مثلاً _ قرأت أن الوزير ابن الفرات تناهى في الترف حتى ما كان يأكل إلا بملاعق البلور،
وما كان يأكل بالملعقة إلا لقمة واحدة،
فكان يوضع على المائدة أكثر من ثلاثين ملعقة، وذكروا عن المأمون أن مائدته كانت تبلغ في بعض الأحيان ثلاثمائة لون،
وكان راتب أبي طاهر وزير عز الدولة من الثلج في كل يوم ألف رطل، ومن الشمع في كل شهر ألف مَنٍّ،
وغضب المأمون على جارية له، فأرسلت إليه تفاحة من العنبر مكتوباً عليها بالذهب: =يا سيدي ثبت+.
وكانت أم الخليفة المقتدر تعمل نعالها من ثياب تسمى الثياب الديبقية، تقطع على قدر النعال،
وتطلى بالمسك والعنبر المذاب، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب مسك وعنبر مُجَمَّدان،
وكان لا يمكث النعل في رجلها إلا أياماً ثم ترميه للخدم.
وكان النساء المترفات يشترين جلود الثعالب تحضره التجار من سيبيريا، يبطن به ثيابهن في الشتاء.
وقد ذكر المسعودي أن إبراهيم بن المهدي استزار الرشيد يوماً، فقدم له على المائدة _ فيما قدمه له _ طبقاً فيه قطع من سمك،
فقال له الرشيد: لم صَغَّر طباخك قطع السمك،
قال له أمير المؤمنين هذه ألسنة سمك؛
فاستحلفه الرشيد أن يخبره عن ثمن هذه الألسنة،
فقال له: أكثر من ألف درهم، فرفع الرشيد يده، وأبى أن يأكل منها.
ويشبه هذا ما قرأته مرة أن أحد اللوردات من كبار الأغنياء عمل وليمة لبعض الكبراء، فقدم فيها طبقاً فيه ألسنة بعض الطيور النادرة.
أمريكا وعمود الذهب
وقرأت مرة أن أمريكا في سنة 1899م، كانت اعتزمت أن تقيم في معرض باريس عموداً من الذهب يساوي ما فيه مائتي ألف جنيه
إشارة إلى أنها مملكة الذهب.
ومثل ذلك ما جاء في تاريخ الوزراء للصابي أن المعتضد اجتمع في خزائنه تسعة ملايين من الدنانير،
فأَمَّل أن يتمها عشرة، ويسبكها سبيكة واحدة، ويضعها في مكان بمرأى من الناس ليسير في الأفاق أن للمعتضد عشرة ملايين ديناراً ذهباً هو في غنى عنها،
فاخترمته المنية قبل أن يحقق غرضه.
وأمثلة ذلك في الحضارات القديمة والحديثة،
وهي في الحديثة آنق(1)، وأترف، وأعقد، وقد شمل التعقيد، والتصنع، والتكلف كل مناحي الحياة،
وشمل كثيراً من الأوساط بعد أن كان في الحضارات القديمة مقصوراً على بعض الملوك والأمراء.
هذا حفل عرس يقام في بيت الأغنياء حتى والأوساط؛ فتقوم دنياهم وتقعد وترتبك حياتهم وترتبك،
ويمر الشهر والشهران، والأسرة لا تعرف الراحة، من خطوبة وجهاز، وإعداد حفلة وتنظيمها، ونحو ذلك من مشاكل لا عداد لها،
ولا ينتهي الزواج حتى تكون الأسرة كلها قد تهدمت أعصابها وماليتها من كثرة ما لاقت من العناء،
وما تحملت من أعباء، وما سبب ذلك إلا ما اندفع فيه الناس من تعقيد، وتكلف، وتصنع.
وهذه مظاهر الحياة كلها معقدة؛ فالمرأة تقضي نصف عمرها أمام المرآة متصنعة متجملة،
وهذه مائدة الأكل يقضي الوقت الطويل في إعدادها وتصفيفها،
وهذا الأكل يقضي فيه كل مرة ساعة، أو أكثر في وضع صنف، ورفع صنف، وما إلى ذلك.
وهذه الملذات ووسائلها كلها تعقدت وتركبت؛ فالذهاب إلى التمثيل يكلف كثيراً من العناء في المظهر، والملبس، والمركب،
ويحب كل من ذهب إليه أن يكون هو في نفسه رواية ينظر إليه الناظرون: في ملبسه، ومشيته، ونظراته وما إلى ذلك،
وكل ملذة من ملذات الحياة _ مشروعة أو غير مشروعة _ لا تنال على بساطتها وسذاجتها،
وإنما تنال على ضروب من التعقيد والتكلف لا نهاية لها.
ضياع البهجة
ومن الغريب أن المتلذذ بهذه الضروب من التكلف لا يلبث أن يعتادها، ويألفها على بسيطة ساذجة؛
فيبحث عن وسائل أخرى لزيادة تعقيدها.
ولو كان تعقيد الملذات يزيد السرور بها لهان الأمر، ولكن الواقع أن تعقيدها يضيع بهجتها، ويقلل الاستمتاع بها؛
فالعامل البسيط يتلذذ من منظر رواية بسيطة أكثر مما يتلذذ الغني المترف من رواية امرأة غنية بفستانها الأنيق الموشي.
هذا فضلاً عما يستوجبه هذا التكلف والتعقد من أسباب التعاسة؛ فكم بيت شقي بسبب امرأة في البيت تتكلف أكثر ما تحتمل ميزانيتها في الملابس وأدوات الزينة،
وكم أسرة شقيت؛ لأن رجلاً يحتفل بسكره أو قماره أكثر مما يحتفل بضرورات بيته.
وكثير من البيوت بائسة؛ لأن حاجة المعيشة تعقدت وتركبت؛ فأصبحت ميزانياتها لا تكفي لضروراتها، وكثيراً ما تضطر تكاليف الحياة، وتعقدُها أن يسلك الناس سُبُلاً غير شريفة في الحصول على المال الذي تتطلبه تعقيدات الحياة.
ومن استطاع أن يحتفظ بشرفه عاش في قلق وهمٍّ من المطالب الكثيرة التي يحيط به، والتي يستطيع أن يحتملها في نفسه ولكنه لا يحتملها في أهله وولده.
وضروب المعاملة والسلوك يسودها التصنع، والتكلف، ومظاهر الرياء في الوظيفة، وفي المصالح الحكومية، وفي المحال التجارية، وفي الحفلات، والولائم، والأفراح، والمآتم لا شيء من البساطة، ولا شيء من الرجوع لفطرة.
وحتى الآداب والفنون دخلتها الحضارة فعقدتها، وملأتها زينة، وصناعة، ومحسنات لفظية، ومحسنات معنوية، واستعارة ومجازاً، وتكلفاً في التعبير لا يجري مع الطبيعة،
والروائي لا يكون روائياً حقاً حتى يغرب، والممثل لا يكون ممثلاً حقاً؛ حتى يتصنع ويتكلف البكاء، والضحك، والصياح، وإلواء اللسان، والتشدق في الأداء.
التعقيد
والناس في مخاطبتهم لا يسلون(2) أقرب طريق للفهم والأفهام، ولا أصدق عبارة وأبسطها للتعبير عما في النفس،
حتى ليصعب علينا في كثير من الأحيان معرفة الحق في الموضوع؛ لما يمتزج به الحقيقة من شكوك، وغموض، وإيهام، وتَصَنُّع، وتزويق،
مع أن البساطة في التعبير هي خير وسيلة للإقناع والإفهام،
ورُبَّ كلمة صريحة صادقة بسيطة فعلت ما لا تفعل الخطب المروقة(3)، والأحاديث المنمقة، وخير الأدب ما قال(4) إلى البساطة.
من كل هذا نرى أن الحضارة صحبها في كل نواحيها تعقيد، وتكلف، ورياء، وتصنع، وبعد عن البساطة؛
وأن هذا التكلف، والتصنع قد جرَّ من الشرور على العالم ما لا يحصى،
ولكن هلهذا عرض ملازم للحضارة لا يمكن أن تنفك عنه؟أو هو _ كما يقول المناطقة _ عرض مفارق يمكن أن يكون، ويمكن ألا يكون؟.
إن الحضارة درجة في الرقي طبيعية فلا يمكن ولا من الخير أن يتبدئ الناس بعد أن تحضروا،
ولكن ألا يمكن أن نتحضر وأن تتبسط معاً؟لست أرى أن الحضارة من لوازمها التعقيد،
بل إني أتصور حضارة سامية تعني ببساطة العيش مع انتفاعها بما وصل إليه العلم.
وقد قرأنا أخباراً عن قوم نبلاء عاشوا عيشة البساطة وسط الحضارة كما فعل (تولوستوي) في حياته الأخيرة،
وقد قرأت قصة لطيفة في كتاب أدب النديم إذ حَكَى أن عبدالله بن طاهر دعاه غني إلى وليمة،
ثم أَخَّر الأكل لإعداده إعداداً يتناسب ومقام ابن طاهر، فطال غيابه ثم أحضر من الألوان، والتصنع،
والتكلف ما لا حدَّ له، فلما همَّ ابن طاهر بالانصراف سأله الداعي: أيأمر الأمير بشيء؟
قال: أن تذهب إلى فلان وتتعلم منه الفتوة؛ فذهب إليه وكان الوقت وقت غداء،
فأمر الخادم أن يحضر ما عنده من غير أن يزيد شيئاً، فحضر طعام نظيف بسيط لساعته،
ثمَّ قال له: هذه هي الفتوة التي أراد ابن طاهر أن أعلمكها.
كراهية التكلف
على أنا نجد اليوم نزعة ظاهرة في المدنية الحديثة، وهي كراهية التكلف والسآمة من التعقيد في المعيشة،
والإمعان في الملذات، والتصنع في الفن، والأدب، والتشدق في الكلام،
وهي نزعة ظهرت في نواح كثيرة نرجو أن تعم وتتسع.
أريد من البساطة الصراحة في القول، والطهارة في التفكير، وعدم الإمعان في المظهر،
والتصرف في بساطة ويسر، ونظافة الفكر من كراهية الناس، والتعالي عليهم، والسيرَ في الحياة كما هي من غير كلفة، ولا رياء، ولا تظاهر، ولا تعقيد؛
فقد تكون مائدة نظيفة بسيطة أشهى عند العاقل من مائدة معقدة مركبة،
وقد يكون جمال الفتاة في بساطة حليها وبساطة ملبسها خيراً من حلىً مكدسة، وثياب مزركشة.
في بساطة العيش راحة النفس، وحفظ الصحة، وحسن التفاهم، والتخفف من الأعباء المالية،
وشعور بأن الحياة المادية ليست كل شيء في الحياة؛ حتى يضيع كل الزمن في تعقيداتها وتركيباتها،
فهناك حياة روحية سامية جميلة تستحق أن يوفر لها جزء من الزمان، ويخصص لها وقت من التفكير |
|
|
|