الفاشنستا
"فاشِنستا"، اللفظة قديمة، وتعود لعشرين عاما تقريبا. الأصل في Fashionista (المسبوكة من كلمة إنكليزية ولاحِقة إيطالية) أن تُطلق على المتعلّقين بآخر طرازات اللباس، أو الموضة. وهذه ظاهرة أقدم من هذه الكلمة بطبيعة الحال. لكن منذ بضع سنين، في عالم وسائط التواصل الاجتماعي، اكتسبت الكلمة معنى جديدًا وذا زخم.
ثقافة الاستعراض
في العالم كلّه، صارت وسائل التواصل الاجتماعي المعتمدة على الصُور (مثل الإنستغرام والسنابتشاب) وسيلة للاستعراض البصري. وهذا لا يقتصر على بقعة أو فئة معينة. فنجد ثقافة الاستعراض هذه باديَة، حتى صار الأطفال يفتحون قنوات على اليوتيوب ويستعرضون فيها يومياتهم، وآخر ما اشتروا، وأحدث ما صنعوا. صار لكلٍّ منبر، ولكلٍّ منصّة في سوق كان في يوم ناديًا حصريّا لأهله المُختارين.
هذا امتداد طبيعي لما فعلته الإنترنت من كسر التقليدية والمركزية. فكما أن سُلطة المخرج تراجعت، وصار الناس يصورون، و"يمنتجون"، ويُخرجون أفلامهم بأيديهم، سقطت كذلك حصرية مسألة "النجومية" وما يرتبط بها من قوة تسويقية، وسلطة تحريك الجماهير. ففي السابق، كانت تلك السلطة النجوميّة محتكرة في المشاهير الذين منّ عليهم التلفزيون ووسائل الإعلام التقليدية بعباءة النجومية الثمينة. وبعد أن سُحب البساط من الوسائل ذات القبضة الحديدية، انفرطت حبّات المسبحة، والتقطها مَن التقطها.
قوة الصورة
إذًا جوهر مسألة "الفاشنستات" هو الشُهرة، والشعبيّة، والحظوة لدى الجماهير. ولا نريد هنا أن ندخل هنا في الجدل القديم "المخرج عاوز كده" مقابل "الجمهور عاوز كده"، أو "كما تكونوا يولّ عليكم" مقابل "الناس على دين ملوكهم" أو مشاهيرهم! بل السؤال هنا، كيف أمكن أن يقبل كل هذا الجمهور ما تفعله "الفاشنستات" ويتأثر به؟ الجواب: بقوّة الصورة. حاسة البصر لدى الإنسان حاسة بدائية وفورية، حاسة لا تحتاج إلى ترجمان. الصورة يمكنها أن تشلّ قدرات الإنسان العقلية لوقت ما. بعكس السمع مثلا الذي يحتاج لإنصات وعرض على العقل ليفهم، وبعكس القراءة التي تحتاج إلى عمليات أكثر تعقيدا لأن فيها تجريدا. ومع تواتر القصف البصري على عين الإنسان، تتغير المألوفات، حتى القيم تتغير، ويصير المبذول مقبولا، ويصير العيب عادة ظريفة. نعم، إنّه نوع من التطبيع!
من الفضح إلى الاتباع
والأمر لم يكن أن ظهرت بعض "الفاشنستات"، فرحّب بهن الجميع وألقى لهن ببتلات الزهور وهلّل! بل قاوم في البداية بالامتعاض، وكي يعبر عن امتعاضه قام بفعل أخرق جدا، أخذ ينشر ما يرى مع تعليق يتضجر فيه على ما يحدث. ولأن البشر يحبون الفضائح (لما فيها من السرّية المُنْتَهَكَة والشعور بالحصول على شيء خاص ونادر)، يقودهم الفضول للبحث عن المصدر الأم، ثم متابعته ربما ببنية طيبة وهي الإنكار، أو معرفة ما يحدث في هذا العالم لحماية النفس والأبناء، ثم مع تكرار القصف، يحدث التطبيع، ثم الألفة، ثم المحبّة، ثم الإتّباع!
وحينما وجد المجتمع أنّ الأمر خرج عن يده، وصارت "الفاشنستات" كالأبيات الشاردة، تحل وتربط وتفرض قوانين اللعبة، جأر المجتمع واستغاث، لكن بعد فوات الأوان! الآن صار الصولجان في أيديهن. لقد فاتتنا النصيحة الثمينة "أميتوا الباطل بالسكوت عنه". والسكوت هنا ليس السكوت عن إنكاره بالقلب أو اللسان واليد، بل السكوت عن إثارة الضجة حوله، هذه الضجة التي تخدمه أيما خدمة. الضجة التي تأتيه كل يوم بوجبة من المتابعين/المريدين الجدد، والإعجابات، والتعليقات.
في عصر "الفاشنستات"، لا موهبة إلا جمال الشكل، ولا صوت يعلو على صوت الاستعراض، وأحيانا الاستفزاز. هذا وحده يحرّك أفواج المتابعين. وبما أن "الفاشنستا" لم تحتج لموهبة خاصة أو دراسة متخصصة لتغدو نجمةً تحرّك قلوب الملايين، وتدير رؤوسهم، وتصنع قناعاتهم، وتفرغ جيوبهم. صارت "الفاشنستات" ملهمات للفتيات، وصار حلم فتيات كثيرات أن يكنّ مثلهن. وحاصل هذا كله المزيد من تسليع النساء في عالم المرأة فيه مسلّعة سلفا، و"مُشيَّأة"، و"مُحَوْسَلَة" بمصطلحات الدكتور عبد الوهاب المسيري.
وبعد أن كانت "قيمة المرء ما يحسنه" كما قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، صارت قيمة المرء بعدد متابعيه، حتى أن هناك من يعرض أن يبيعك متابعين وهميين! في عالم كميّ يُرَسْمِل كل شيء، ويعدُّ الإنسان رقما في إحصائية ما.
إلى كل ما يتابع "الفاشنستات"، وينشغل بهن، ويتقصى أخبارهن، ثم يشتكي الحال، أنت الساعي إلى حتفك بظلفك، أنت صانع فرانكنشتاينك بيديك، أنت من كثّرَ سوادهن. افطمهنّ عن المتابعة والاهتمام، وإلا فإنّ الطوفان لن يوفّر أحدا
|
|
|
|