لم تُرشَّح الكاتبة الفرنسية “مارغريت دوراس” (1914- 1996) لجائزة الأوسكار لأفضل كاتبة عن عبث، ولم تحصل على جائزة “غونكور” الأدبية عن روايتها “العاشق” وهي بعمر السبعين بمحض صدفة! ولم تحيي فرنسا ذكرى مئوية ولادتها منذ أيام قليلة إلا وفاءً وتقديرًا لما قدمته للأدب والمسرح والسينما من عطاء ثري. هي التي تميزت وتألقت منذ بداياتها مع الكتابة لتلفت الأنظار إليها، وليتنبأ لها الكثير بمستقبل واعد ككاتبة، وهذا ما حصل.
فالأسلوب الذي اتبعته “دوراس” في كتاباتها ميزها عن غيرها من الكتّاب، ومن خلالها استطاعت ترك بصمة خاصة بها، ولعل روايتها “العشيق” 1984 قد اختصرت سيرة حياتها منذ مولدها وصولاً إلى الفترة التي عادت فيها أسرتها إلى باريس البلد الذي عاشت وانتسبت إليه، وشهد على مسيرتها الإبداعية. وإلى هناك غادرت العائلة بعد أن توفي والدها وترك طفلته “مارغريت” وهي ابنة الأربعة أعوام بعد صراع مع مرض العضال.
ولدت “مارغريت دوناديو” وهو اسمها الحقيقي في 4 أبريل 1914 في المستعمرة الفرنسية التي سميت آنذاك “سايغون” في فيتنام، وهناك عاشت سنواتها السبع عشرة، وأول قصة حب. درست الرياضيات لتتركها لتدرس العلوم السياسية والقانون، ولتنضم لاحقاً إلى الحزب الشيوعي الفرنسي. حرمانها المبكر من والدها و علاقتها السيئة مع والدتها التي كانت تفضل الأخ الأكبر عليها وعلى أخيها الأصغر، بالإضافة إلى علاقة الحب التي جمعتها بالشاب الصيني الذي يكبرها بأعوام، وترعرعها في ظل الاستعمار الفرنسي، كل هذه الظروف أثّرت في نهج كتابتها وطريقة تفكيرها، وكان لكل ما سبق النصيب الأكبر فيما كتبت، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
مع روايتها “السيد في مواجهة الباسيفيك” وضعت أولى خطواتها في عالم الشهرة، لكن المسرح كان أرحب بالنسبة لها وساهم في ازدياد شهرتها وشعبيتها بعد أن أصدرت مسرحية “الميدان”، نجاح هذه المسرحية دفعها لكتابة مسرحية “أيام بأكملها بين الأشجار” ولعل واقعية وحساسية نصوصها المسرحية قد ساهم بشكل كبير في هذا النجاح، وهذا ما أكده مترجم نصها المسرحي ” الموسيقى الثانية – الموسيقى” العراقي كامل عويد العامري حين قال في مقدمة الكتاب: “لقد تميزت أعمال “مارغريت دوراس” بالتنوع والحداثة اللتان أدتا إلى تجديد الجنس الروائي، فضلاَ عن نتاجاتها المسرحية التي صدمت ما كان سائدًا حينها في ميداني السينما والمسرح، وهو ما جعل منها شخصية متميزة. لقد عدّت مسرحيات “دوراس” بأنها أكثر حساسية وأكثر اقترابًا من الحقيقة التي تقف خارج الأدب، فحضورها ينتمي إلى ميدان الأعجوبة، وهو حضور يتجدد مع كل عرض مسرحي، أما المضمون فهو كبير وواسع يتضمن جزء منه في حقيقته أنه لا يسعى إلى فهم الواقع فحسب إنما للكشف عن كل الأسرار التي ينطوي عليها هذا الواقع”.
مارغريت في فيلم العشيق
انتقلت مارغريت إلى كتابة السيناريو، وذلك من خلال فيلم “هيروشيما حبيبتي” و”الأغنية الهندية”. كتب الكثير من الكتاب عن تجربة “مارغريت دوراس” ولا يزالون، ولعل من أهم الكتب التي أضاءت على تجربتها وسيرتها هو كتاب “ولع دوراس” للكاتب جان فالييه، وهو الكتاب الذي اعتبره النقاد من أهم الكتب التي تناولت سيرة حياتها. أما الكاتب الآن فيكوندولاي، فأصدر كتابًا عنها بعنوان “على خطى مارغريت دوراس”. وغيرها الكثير من الكتب التي تناولت حياتها وكتاباتها بالنقد والتحليل والاستعراض.
ولعل علاقتها بالشاب “يان أندريا” الذي يصغرها بأعوام كثيرة من أكثر ما أثار الجدل حول شخصها، إلى جانب أفكارها الجريئة الصادمة بالنسبة لمن حولها، هي التي ربما ترجمت تحررها وأفكارها، بالإضافة إلى كتاباتها عبر هذه العلاقة ، فلم تعر أدنى اهتمام للآراء التي طالت هذه العلاقة بالنقد والاستغراب، فحبيبها الكاتب الشاب عاش في البدء علاقة حب مع كتاباتها قبل أن يغرم بها بعد لقائهما، هذا اللقاء أسفر عن علاقة استمرت ما يقارب الستة عشر عامًا، وانتهت بمفارقة مارغريت للحياة. تعرفت مارغريت على حبيبها وهي ابنه الـ 66 عامًا بينما لم يتخط هو الـ 25. ولعل روايتها “مرض الموت” ما هي إلا ترجمة لعلاقتها بهذا الشاب الذي قيل فيما قيل عنه إنه “مثلي”، وفي هذه الرواية نقرأ: تسأل: هل يمكن أن يحدث شعور الحب فجأة من أشياء أخرى. فتقول: من كلّ شيء. من رفرفة عصفور الليل، من نوم، من حلم أثناء النوم، من دنوّ الموت، من كلمة، من جريمة، من الذات، من الذات نفسها، يحدث فجأة من دون أن تدري كيف”.
لم تكن روايات “مارغريت” هي وحدها التي حولت إلى أفلام بل حولت قصة الحب التي عاشتها في سنواتها الأخيرة مع هذا الشاب إلى فيلم سينمائي فرنسي من بطولة الممثلة “جان مورو” في دور “مارغريت دوراس” والممثل “أميريك دو مارينيه” في دور “يان أندريا”.
طيف “موريس” لم يغب عن فرنسا وعن محبيها حول العالم، فحتى بعد وفاتها بسنوات طويلة لا تزال كتبها تتصدر قائمة المبيعات في المكتبات الفرنسية ومكتبات العالم. ولا تزال الأطروحات الجامعية تتناولها بالبحث والدراسة. أما روايتها “العاشق” فلقد حازت النصيب الأكبر، وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة. |
|
|
|