الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنًا، وأشهد ألا إله إلا الله، جعل الحج أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من لبَّى بالحج وطاف وسعى، وصلى خلف المقام، صلى الله عليه وآله، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
إخوة الإيمان، لا زلنا نعيش في أيام الحج التي هي من أشهر الحج الصحيح من كلام أهل العلم وخير ما نتحدث عنه ما أسفر عنه الحج من المنافع التي تعود على الفرد والمجتمع، فنقول يقول الله - تعالى -: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]، فقد جمع الله في هذه الآية الموجزة سائر المنافع التي يجنيها الحجاج.
إخوة الإيمان:
لقد منَّ الله على المسلمين بأداء الحج هذا العام، وكان موسمًا، موفَّقًا؛ حيث أدى الحجاج حجهم بكل يُسر وسهولة، فشكر الله لكل من ساهم في تيسير أمور الحجاج، ووفق ولاة الأمر للعمل الصالح الذي يعود عليهم وعلى شعبهم بالخير العميم، لقد لمسنا ثمرات التنظيم والترتيب والمتابعة.
إن موسم هذا الحج ناجح بكل المقاييس ألا يكفي أن الوصول لعرفه لا يأخذ إلا ربع ساعة؟ وكذا الوصول إلى مزدلفة والوصول من منى، إلى الجمرات نصف ساعة أنه زمن قياسي جدًّا بالنسبة للأعوام الماضية فمزيدًا من التنظيم.
وإن من أعظم المنافع التي يستفيدها الحاج توحيد الله وإفراده بالعبادة، ويظهر ذلك جليًّا في رفع الصوت بالتلبية بعد الإحرام: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك)، ويظهر ذلك أن من أفضل دعاء، يقوله الحاج يوم عرفة: (لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
ويظهر ذلك في أداء المناسك اقتداءً وامتثالاً؛ إذ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خذوا عنِّي مناسككم))، ويقول: ((إنما جُعِل الطواف بالبيت ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله)). ومن المنافع الدينية الشرعية وأهمها العلم، فكم يجتمع في هذه البقاع من العلماء من أنحاء العالم الإسلامي، فإذا عقدت بينهم اللقاءات والحلقات، وطرحت كثير من القضايا الساخنة - كان في ذلك خير كثير للعلم والعلماء، والدعوة والدعاة وسائر الشعوب الإسلامية؛ لتنطلق حسب توجيه العلماء دون إفراط أو تفريط.
ومن المنافع الشرعية ما يستفيده الحاج من الأخلاق الفاضلة من غيره أثناء أداء الحج؛ حيث يرى من يطبقون السنة بحذافيرها، ويتخلقون بأخلاق الصالحين، ناهيك عن زهدهم وتواضعهم، وعفتهم ونزاهتهم، ومن المنافع الاقتصادية، فلو أن القائمين على الاقتصاد في العالم الإسلامي رتبوا لموسم الحج، وحصلت فيه اجتماعات لدراسة فائض المنتجات في كل بلد، وحاجة كل بلد وحصل تنسيق في التكامل فيما بينهما، لعاد ذلك بالخير العميم على هذه البلاد جميعًا، وكمَّل بعضها نقصَ بعضٍ.
وكذا ما يحصل من بيع وشراء في موسم الحج، فكم من إنسان نمى تجارته في موسم الحج، وقد رفع الله عنَّا الجناح في ذلك: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وقد نزلت لما تحرج الصحابة من التجارة في موسم الحج كعادة أهل الجاهلية.
ولو أننا فكَّرنا قليلاً فيما نحتاجه في موسم الحج على الأقل، لوجدنا أننا نستورد الكثير منه من بلاد كافرة، في حين أن الإمكانات متوفرة لدينا، إن ما نحتاجه في هذا الموسم من ثياب وسيارات، وحاجات مختلفة، لو أنا نعتمد بعد الله على أنفسنا، لكان في ذلك خير كثير.
أرأيتم ثياب الإحرام التي نلبسها، وكذا السيارات التي نركبها، إن هذين أمرين يمثلان طرفي حاجتنا وبينهما أمور كثيرة، فلو أن موسم الحج عاد إلينا ونحن لا نحتاج من أحد من خارج البلاد الإسلامية، لكان في ذلك تحقيق المنافع وشهورها التي أمرنا الله أن نشهدها في موسم الحج.
ولا ننسى مسألة الهدايا والأضاحي التي أخذت مجراها في نفع قطاعات كبيرة من المحتاجين؛ حيث أصبحت مئات الآلاف منها تتولاَّها جهة موثوقة وترسلها لمختلف أنحاء العالم، بدلاً من أن ترمي وتتعفن ويوارى عليها التراب، وأنت أخي الحاج إذا كنت ستتولى هَدْيك وأُضْحيتك بنفسك، فهذا أكمل وأفضل.
ومن المنافع الاجتماعية ما يحصل من التعارف والتألُف، وتتمثل في مظهر المساواة حينما يلبس الحجاج جميعهم ثياب الإحرام، فلا فرق بين صغير وكبير، ولا بين أمير ومأمور، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين شريف وطريف.
يتذكرون القدوم إلى خالقهم بثياب الأكفان.
وهنا تسقط الشعارات؛ فلا مناصب تميز بين الناس، ولا أنساب ولا جاه ولا مال، بل الميزان الحق؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13].
ومن المنافع اجتماع المسلمين من كل مكان؛ للتشاور فيما يهمُّ مصالح المسلمين وشؤونهم الخاصة والعامة، لا سيما أن فيهم الحكام والعلماء، والتجار والفلاحين، وأرباب الصناعات، ومختلف شؤون الحياة.
ومن المنافع السياسية، فالحج مؤتمر ينبغي أن يستغل ويستثمر؛ لبحث قضايا المسلمين ومآسيهم ومصائبهم، ودراستها ومراجعتها؛ للوصول إلى وضع خطط مرحلين للنهوض بالأمة، أما أن يستغل الحج حفنة من البشر تدعي زورًا وبهتانًا أنها تنطلق من منطلقات شرعية؛ لتحقيق مكاسب لهم ورفع شعارات جوفاء، فهذا ينبغي أن يقضي عليه، وأن يقابل بالحزم؛ لأنه خروج بالحج عما شرع له.
أما أن يفتات على هذه البلاد بعض الموتورين ويتهمون هذه البلاد التي فتحت ذراعيها وبذلت أموالها، وسخرت قدراتها لخدمة حجاج بيت الله، فهذا مالا يصدقه مسلم يرى الحقائق كالشمس في وضح النهار.
ولو أردت تلخيص هذه المنافع لقسمتها إلى قسمين:
أولاً: ما يتعلق بالأمة عامة.
ثانيًا: ما يتعلق فيمن أدى فريضة الحج.
أما عن الأول فمن منافع الحج:
1- وصل حاضر الأمة بماضيها.
2- سقوط الشعارات الزائفة.
3- توحيد كلمة المسلمين.
4- تبادل المنافع التجارية والتجارب الاقتصادية.
أما عن الثاني، فمنها:
1- تجديد ذكر الله.
2- تذكر اليوم الآخر.
3- نيل رضوان الله ومغفرته.
4- يتعلم الحاج دروس التضحية والبذل.
5- الحج تدريب عملي للحاج على الصبر والطاعة.
6- الحج نقطة تحول في حياة الحاج.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27، 28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:الحمد لله الذي أوجب الحج وخصَّه إلى بيته الحرام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أمر بأن تؤخذ عنه المناسك، صلى الله عليه وآله، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
إخوة العقيدة، لاحت لنا بعض الملاحظات العامة الهامة التي ينبغي ألا تتكرر في موسم الحج، وأنا حين أذكرها على هذا المنبر آمل أن يأخذ بها من يسمع، ويبلغونها إلى غيرهم ممن يسمع منهم، وفي هذا خير كثير - إن شاء الله.
من هذه الملاحظات:
1- تبرُّج النساء وسفورهن، وإنك لتعجب من امرأة جاءت حاجة ملبية مطيعة لله في أداء فرضها، لكنها تعصيه وتشهد من حضرها في تلك البقاع الطاهرة، وفي زمن الحج الفاضل، تشهدهم أنها تعصي الله في تبرُّجها وسفورها.
2- المزاحمة عند الطواف ورمي الجمرات، لقد شاهدنا مآسي من هذا القبيل، وما حدث في هذا العام حول الجمرات في يوم الثاني عشر بسبب العجلة.
3- مناسك الحج شرعت لإقامة الذكر وحال الناس الآن، عكس ذلك قصص وروايات وأحاديث جانبين، بل هناك من يعتبرها بطولة تراه حول الجمرة ربط وسطه وشد رأسه، وكأنه مُقدِمٌ على مَلْحَمَة.
4- الأضاحي والهدايا، هناك من يذبحها ولا يأكل منها، بل يتركها تتعفَّن.
5- يقصد بعض الناس المشقة، كأن يمشي وهو يستطيع الركوب، أو غير ذلك، ويظن أن في ذلك أجرًا، وليعلم أن الأجر حسب اتباع السنة.
6- عدم فقه الموازين في العبادات، فتجد مَن يحج وهو لم يؤد حقوق الناس عليه من العُمَّال وغيرهم.
7- عدم اختيار الأوقات المناسبة.
عِباد الله:
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ فقد أمركم الله بذلك، فقال - جل من قائل عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وزد وبارك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.