طهارة نسب النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فيجمل الكلام، ويطيب المنطق، ويحلو المجلس بالحديث عن سيد الكائنات، وسيكون حديثنا في هذا اللقاء المبارك عن طِيبِ نسبه صلى الله عليه وسلم، وطهارة أصله، وكرامة معدنه، فهو صلى الله عليه وآله وسلم أشرف الخلق، وأكملهم خُلُقًا وخَلْقًا.
قال القاضي عياض: "لا خلاف أنه أكرم البشر، وسيد ولد آدم، وأفضل الناس منزلة عند الله تعالى، وأعلاهم درجة وأقربهم زلفى"[1].
وقال الشيخ عبدالله البسنوي: "وخلق جسمه الطيب الطاهر من أطهر الأعراق البشرية، وأطيب الأنساب الاصطفائية الإنسانية، وأنفس جواهر النطف الناشئة بين الأمهات والآباء من خيار القرون، وكرام القبائل والأحياء"[2].
وقد أشار إلى ذلك الإمام البوصيري في قصيدتيه المشهورتين:
قال في البردة:
أبان مولده عن طيب عنصره *** يا طيب مفتتح منه ومختتمِ
وقال في الهمزية:
لم تزل في ضمائر الكون تختا *** ر لك الأمهات والآباءُ
وهذا ما يجعل العاقل يتأمل في هذا الأصل الذي خرج منه أفضل الخلق، ليعرف الطريق الذي يخرج منه العظماء، والأرض المباركة التي تثمر هذه الثمار الطيبة.
ومما لا شك فيه أن نسبه صلى الله عليه وسلم كان محفوظًا عند العرب، شهد بشرفه وطهارته العدو قبل الصديق؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه: ((أن أبا سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسبٍ))[3].
وقد ذكر الإمام البخاريُّ رحمه الله نسب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى عدنان، فقال: "هو أبو القاسم، محمَّد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصيِّ بن كلاب بن مُرَّةَ بن كعب بن لُؤَيِّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن إلياس، بن مضر بن نِزارِ بن مَعَدِّ بن عدنان"[4].
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد بعد أن ذكر نسبه عليه الصلاة والسلام إلى عدنان: "إلى هنا معلوم الصحَّة، متَّفقٌ عليه بين النَّسَّابين، ولا خلاف فيه ألبتة، وما فوق عدنان مختلفٌ فيه، ولا خلاف بينهم أنَّ عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام"[5].
والأدلة التي وردت في طهارة نسبه صلى الله منها ما هو صريح الدلالة، ومنها ما هو متضمن لذلك.
أولًا: الأدلة الصريحة في طهارة نسب النبي صلى الله عليه وسلم:
روى البيهقى فى سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ولدنى من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدنى إلا نكاح الإسلام)
وروى الإمام الطبرانى في الأوسط وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدنى أبي وأمي، لم يصبني من نكاح أهل الجاهلية شيء)).
وروى الإمام البيهقي في دلائل النبوة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما فأخرجت من أبويَّ، ولم يصبني شيء من عهد الجاهلية خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم، حتى انتهيت إلى أمي فأنا خيركم نفسًا وخيركم أبًا)).
وروى أبو نعيم عن ابن عباس، مرفوعًا: ((لم يلتقِ أبواى قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفًّى مهذبًا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما)).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة بلغت مبلغ التواتر المعنوي كما ذكر ذلك الإمام السيوطي في التكميل والمنة، والإمام الباجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد.
وقد سهر الإمام هشام بن محمد المعروف بابن الكلبي على مواصلة البحث في نسبه عليه الصلاة والسلام، وتوصل إلى هذه الحقيقة بنفسه، فقال: "كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحًا ولا شيئًا مما كان في أمر الجاهلية"[6].
ثانيًا: الأدلة المتضمنة لطهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:
روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ((بُعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه)).
وروى مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: قال: صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)).
وروى الإمام الترمذي في سننه عن العباس بن عبدالمطلب قال: ((قلت: يا رسول الله، إن قريشًا جلسوا يتذاكرون أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق، فجعلني في خير فرقهم،، ثم تخير القبائل فجعلني في خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا وخيرهم بيتًا)
قال القاضي عياض في الشفا: ورُويَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [التوبة: 128]، قال: "نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح".
وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: 219]؛ قال: "من نبي إلى نبي، حتى أخرجك نبيًّا"[7].
قال الإمام السيوطي في التعظيم والمنة في أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بُعِثتُ من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا إلى القرن الذي كنت منه))، فهذا يدل على أن كل أصل من أصوله خير قرنه، ولا يكون كذلك وهو كافر وفي قرنه مسلم، فتعين أن يكون مسلمًا"[8].
وهذا أيضًا ما قصده الإمام البسنوي في كنابة مطالع النور السني المنبئ عن طهارة نسب النبي العربي؛ فهو قد وسع مفهوم الطهارة لتشمل طهارة أصله صلى الله عليه وسلم من كل رجس؛ قال رحمه الله: "وقد وفقني الله تعالى لإثبات دين إبراهيم عليه السلام، وبقائه وبقاء الأمة المسلمة من ذريته إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإثبات طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم بالآيات التي أنزلها الله على قلبه، فشهد ببعضها على ذلك ونص ببعضها وأخبر ببعضها"[9].
ويستخلص مما تقدم أن نقاء المجتمع من الرذيلة، وصفاءه من النذالة، وحفظه لأمانة الطهر والعفة يؤذن بصلاح أبنائه، وحفظهم لهويتهم وشرفهم وعزهم ودينهم، فكلما وجد الطهر في المجتمع ظهرت فضيلته، وكلما ضاع الطهر من المجتمع تشتت وقارب الدمار والخراب.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
[1] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 109) ط: 1، مكتبة الصفا.
[2] مطالع النور السني، المنبئ عن طهارة نسب النبي العربي، ص: 10.
[3] كتاب بدء الوحي، باب سؤال هرقل عن الوحي.
[4] كتاب مناقب الأنصار: باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ط: الرسالة العالمية (11/ 307).
[5] زاد المعاد، ط: مؤسسة الرسالة، (1/ 70، 71).
[6] الشفا (1/ 22).
[7] الشفا1/22.
[8] التعظيم والمنة في أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ص55‘56.
[9] مطالع النور السني المنبئ عن طهارة نسب النبي العربي صيمنع13 |
|
|
|