علي عزت بيجوفيتش
وسّعت الدّولة العثمانية بشكلٍ خيالي خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر ميلادي، فضمّت أغلبَ دولِ شمال إفريقيا والحجاز والشام والقوقاز والبلقان، وكان لها دور بالغ في نشر الدّين الإسلامي في شرق أوروبا، ويرجع لها الفضل في وجود الكثير من العائلات المسلمة في تلك المناطق إلى اليوم، نذكر من بين تلك العائلات: أسرة الفيلسوف الرئيس والمفكّر الإسلامي الراحل علي عزت بيجوفيتش
تعالوا لنحدّثكم قليلًا عن هذه الشّخصية الفذّة..
الميلاد والنّشأة
جذور عائلة علي عزت بيجوفيتش
ينتمي الرئيس البوسني السابق علي عزّت بيجوفيتش إلى عائلة مسلمة عريقة، تعود أصولها إلى بلغراد (العاصمة الحالية لصربيا) فقد وُلد فيها جدّه لأبيه الذي كان يخدم في الجيش العثماني.
رُحِّلت عائلته من موطنها في بلغراد كغيرها من العائلات المسلمة إثر سقوط الدّولة العثمانية وانسحاب قوّات الجيش العثماني من صربيا، واتّجهت لتسكن بلدة صغيرة في البوسنة تسمّى “شاماتس”، صار وَالدُه عمدتَها لاحقًا.
النّشأة والتّعليم
وُلِد علي عزّت بيجوفيتش في الثامن أغسطس سنة 1925 في بلدة شاماتس البوسنية لأبوين مسلمين، وكان له أَخَوَان غير شقيقان وأربعة إخوة أشقّاء (ثلاثة بنات وولد).
أعلن والدُه الإفلاس في شاماتس، فانتقل إلى سراييفو (العاصمة الحالية للبوسنة والهرسك) ليبدأ حياة جديدة.
تعلّم علي قراءة القرآن الكريم وأتقن تلاوته وهو في السادسة، ونشأ على التّمسك بالتعاليم الدينية والالتزام بالشريعة الإسلامية.
زاول دراسته في سراييفو، وحصل على الشهادة العليا في القانون من جامعتها سنة 1950، ثم نال شهادة الدكتوراه سنة 1962 والشهادة العليا للاقتصاد سنة 1964.
عُرِف عنه الشغف بالقراءة والعلم، فقد بدأ قراءة كلّ ما يقع في يده من كتب وعمره 15 سنة، وتسرّب إليه الشّك واهتزّ فيه اليقين الدّيني في خضمّ الصراعات السياسية والفكرية التي كان يعيشها العالم آنذاك، فاتّخذ علي عزّت بيجوفيتش الفِكرَ والمعرفةَ ملاذًا مِن شبح الشكّ في الدّين والعقيدة، ولم يكن يعتنق فكرة إلّا بعد الاقتناع بها عن طريق الحجّة الدّامغة والدليل القاطع، فتمكّن من بناء صرحٍ فكري وفلسفي ونظرة دينية ورؤية سياسية ومنهج قيادي ميّزوه عن غيره من المفكّرين والفلاسفة والرّؤساء.
بداية نضال علي عزت بيجوفيتش
قبل سقوط يوغوسلافيا بعدّة أشهر، تعرّف علي عزت بيجوفيتش على جماعة “الشبان المسلمين” تحمل أفكارًا تتوافق تمامًا مع ما خَلُص إليه بعد سنوات اعتكافه في القراءة والتفكير، يقول علي في مذكّراته متحدِّثًا عمّا وجده في فِكر هذه المجموعة:
لقد كان طرحًا مختلفًا عمّا تعلّمناه في الكتاتيب، إنّها من وجهة نظري قضية العلاقة بين الشّكل والمضمون أو الجوهر، حيث كنّا نرى أنّ رجال الدين يهتمّون فقط بالطقوس أو الشكل الخارجي ويهملون مضمون الإسلام وجوهره.
كانت هذه الجماعة ترى أنّ الأئمّة والشيوخ يجب أن يطرحوا قضايا العصر وأن يتوقّفوا عن التعاطي مع النّصوص الدّينية بجمود وسطحية، وأن يتماشوا مع متطلّبات الوقت.
كما كانت تطمح هذه المجموعة إلى الحفاظ على الإسلام في أراضي البوسنة والهرسك، والدّفاع عنه ضدّ الهجومات الشّرسة التي كان يشنّها الفكر الشيوعي على الله والأديان لاعتقاده بأنّ “الدّين أفيون الشّعوب” حسب قول كارل ماركس.
سنة 1941، انضمّ “الشّباب المسلمون” إلى أفضل مجموعة من الأئمّة في بلادهم آنذاك والتي كانت مُؤطَّرة ضمن جمعية العلماء “الهداية”، وتوسّع نشاطهم ليشمل العديد من المؤسّسات التّعليمية في كلّ أنحاء البلد، وكان لهم المئات من الطلاب المؤيّدين.
أنهى علي عزّت بيجوفيتش تعليمه الثانوي في ذروة الحرب العالمية الثانية، وتهرّب من التّجنيد الإجباري لأنّه لم يكن يؤمن بأفكار أيٍّ من الطّرفين، فلجأ إلى شاماتس، ولم يرجع إلى سراييفو إلاّ بعد انتهاء الحرب.
وسرعان ما عاد إلى النّضال مع جمعية “الشباب المسلمين” ضدّ الأفكار الشيوعية، فتمّت ملاحقته واعتقاله من طرف شرطة أمن الدّولة اليوغوسلافية، وحُكِم عليه بالسّجن لمدّة ثلاث سنوات.
في سنة الإفراج عنه، استأنف عمله النّضالي مع رفاقه القدامى، وتزوّج من حبيبته “خالدة”، وسافر إلى الجبل الأسود حيث عمل لمدّة عشر سنوات، وكبرت أسرته الصغيرة لتضمّ ثلاثة أطفال
البيان الإسلامي
بعد عَقدٍ من الغياب، عاد علي عزّت بيجوفيتش وعائلته إلى سراييفو، فحصل على عمل كمستشار قانوني، ونشأت صداقة بينه وبين “حسين جوزو” -الذي كان رئيس جمعية العلماء آنذاك- فتمكّن علي بمساعدة صديقه من نشر مجموعة من المقالات الجامِعة لخلاصة أفكاره وتحليلاته تحت عنوان “عوائق النّهضة الإسلامية” في إحدى مجلّدات المفكّرة الإسلامية “التقويم” آنذاك، وكان ينشرها تحت اسم مستعار مرفوق بالحروف الأولى من أسماء أبنائه.
كان علي عزت بيجوفيتش مُصِرًّا على خدمة الأقلية المسلمة في البوسنة من خلال تقديم طروحات تحقّق النّهضة والتقدّم من خلال حلول تتوافق مع المبادئ العقائدية الإسلامية ومع متطلّبات الزّمن الذي كانوا يعيشونه. كما كان علي حريصًا جدًّا على لقاء المسلمين البوسنيين المثقّفين، المفكّرين، والفنّانين للحوار والنّقاش حول مواضيع تهمّهم كأقلية مسلمة في بلد تعصف به الشيوعية.
سنة 1970، نشر علي عزّت بيجوفيتش كتابًا سمّاه “البيان الإسلامي” بالتوازي مع “البيان الشيوعي” الذي كان شبه مقدّس آنذاك.
وقد رسم علي عزت بيجوفيتش في كتابه القواعد الأساسية لبناء مجتمع إسلامي معاصر، وبيّن خلاله كيفية بناء نُظم اقتصادية وسياسية تحترم التعاليم الإسلامية وتحقّق صحوة حقيقية للدولة والمجتمع من حيث تحقيق متطلّبات الحياة واللحاق بركب التطور الغربي، كما ركّز فيه على أهمية التربية والتعليم والعلم والصناعة والبحث العلمي لبلوغ الأهداف المسطّرة، فكان هذا الكتاب يشكّل عاملًا مهمًا من عوامل الصحوة بالنسبة لأي مجتمع إسلامي راكد، وكان يحمل أفكارًا ثورية ضدّ الأفكار الشيوعية.. يتحدّث عنه علي في مذكّراته قائلًا:
تدور الفكرة الأساسية في الكتيّب حول المبدأ القائل بأنّ الإسلام هو وحده الذي يستطيع إحياء القدرة الخلاّقة للشعوب المسلمة بحيث يمكّنهم من لعب دور فعّال إيجابي في صنع تاريخهم.. لقد طالب البيان بالعودة إلى الأصول والمنابع، وندّد بأنظمة الحكم القمعية، ودعا إلى المزيد من الإنفاق على التعليم.. وقد تلقّى الغرب “البيان” بشيء من التحفّظ، وأعتقد أنّهم لم يحتملوا وجود الإسلام في صميم الحل وصلب الموضوع.
في ثمانينات القرن الماضي، كانت الحكومة اليوغوسلافية قد عادت إلى إجراءاتها القمعية ضدّ أعداء الشيوعية، فاغتنمت فرصة نشر “البيان الإسلامي” للتنكيل بعلي عزّت بيجوفيتش ورفاقه، وأقامت ضدّهم محاكمة ستالينية تاريخية سنة 1983 في سراييفو، فكانت الكثير من التّهم والادّعاءات ملفّقة، والعقوبات أضخم من الانتهاكات، ووصلت مهزلة القضية إلى حدّ محاسبة المتّهمين على أسماء أبنائهم المرتبطة بالثقافة الإسلامية، وبذلك فقد أُدِين 13 من أحسن المثقّفين الإسلاميين في البوسنة بتهم التمرد والقيام بأعمال مضادّة، وانفرد علي عزت بيجوفيتش بتهمة “الدّعوة إلى نظام ديمقراطي” بدليل نشره لكتاب “البيان الإسلامي”، وحُكِم على الجميع بالسجن لفترات تتجاوز عشر سنوات، وبلغت فترة سجن علي 14 سنة، خُفِّفت إلى 12 سنة بعد التّظلّم، لكنّه لم يقضِ منها سوى ستّ سنوات فقد أُلغِيت العقوبة بعد تعثّر الحكم الشوعي في البوسنة والهرسك سنة 1988.
الرّئاسة
عندما خرج علي عزّت بيجوفيتش من السجن، كان قد انهار الاتحاد السوفييتي وأُدخِل نظام التعددية الحزبية في يوغوسلافيا، فأسّس علي سنة 1990 “حزب العمل الديمقراطي” الذي كان يمثّل البوشناق (أي مُسلمِي البوسنة والهرسك وباقي يوغوسلافيا)، فكان الحزب ذا صبغة إسلامية لكنّه لم يكن عدوًّا للمعتقدات الأخرى.
خاض علي عزّب بيجوفيتش الانتخابات في إطار هذا الحزب، وفاز بأكبر عدد من الأصوات، وسقط بذلك الحكم الشيوعي في جمهورية البوسنة والهرسك التي عُيِّن علي عزت فيجوفيتش رئيسًا لها في شهر نوفمبر من عام 1990.
تحدّثنا في عن رحلة الكفاح الطويلة التي خاضها علي عزت بيجوفيتش ضد الأفكار الشيوعية وحرية الاعتقاد، ورأينا كيف وصل إلى رئاسة جمهورية البوسنة والهرسك الاشتراكية سنة 1990 بعد سنوات طويلة من النضال بالكتابة، والسَجن بين القضبان.. وسنكمل حديثنا اليوم عن حياة هذا الرجل الاستثنائي كرئيس للبوسنة والهرسك، وسنرى كيف تعامل مع واحدة من أفظع الحروب في القرن العشرين.
بدايةً: نظرة عامة على آخر أيام يوغوسلافيا
كانت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية تعاني بِحقّ في فترة الثمانينات -كغيرها من الدول الاشتراكية- فقد كان نظامها الاقتصادي يتخبّط وسط هزائمه الكثيرة وديونه الكبيرة.. وقد أدّى الانهيار الاقتصادي المحتوم إلى نزع الغطاء عن المشاكل السياسية، العرقية والقومية التي كانت مدفونة طوال عقود من الزّمن داخل حدود يوغوسلافيا.
نظام الحزب الواحد الذي كان يحكم الدول الاشتراكية بقبضة من حديد سقط في مطلع تسعينيات القرن الماضي، فصعدت أسماء جديدة تحمل أفكارًا مختلفةً عمّا ينصّ عليه الفكر الشيوعي، ومن بين هذه الأسماء: علي عزت بيجوفيتش المُعلَن رئيسًا لجمهورية البوسنة والهرسك الاشتراكية سنة 1990.
بالنسبة لهذا الرجل وعدد من الرؤساء الجدد للكيانات المشكّلة ليوغوسلافيا (البوسنة والهرسك، كرواتيا، سلوفينيا، صربيا، الجبل الأسود، مقدونيا)، المشكل الرئيسي في يوغوسلافيا هي غياب التكافؤ والتساوي بين الدول المُشَكِّلة لهذا الاتّحاد فيما يتعلّق بمقدار السلطة الممنوحة لكل كيان فيما يخصّ المشاركة في تقرير المصير العام (مصير يوغوسلافيا ككل) أو المصير الخاص (مصير كل دولة على حدة).. يقول علي في مذكّراته:
إنّ السّيطرة الصّربية على الاتّحاد قد تمّ وضعها في أساس الاتّحاد اليوغوسلافي منذ قيامه، وإذ أنّ شعوب الاتّحاد لم تكن على قدم المساواة فإنّ يوغوسلافيا لم تستطع البقاء، والمشكلة هي أنّ مجرّد ذكر المساواة كان بمثابة إهانة للصّرب الذين كانوا يعتقدون أنّهم أوجدوا يوغوسلافيا وأنّها لهم وحدهم.
ونتيجة للخلافات العديدة التي انبثقت بين السّياسيين الممثّلين للدول السّتة المشكّلة ليوغوسلافيا، قامت كل من كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا باستفتاءات شعبية للاستقلال، وقد صوّتت الشعوب لصالح الانفصال، فأعلنت بذلك هذه الدول الثلاثة استقلالها سنة 1991، وبدأ تفكّك كيان يوغوسلافيا واندلعت نار الفتنة بين الأعراق المشّكلة له
علي عزت بيجوفيتش في قلب المعركة
استقلال البوسنة والهرسك
لم يكن علي عزت بيجوفيتش ليرضى بالبقاء داخل حدود يوغوسلافيا بعد استقلال جيرانه، فأقام هو أيضًا استفتاءً لشعبه في شهر فبراير من عام 1991، وكانت النتيجة لصالح الانفصال بأغلبية ساحقة.
الاستقلال أمر جيّد، لكنّ الأمور لا تسير دومًا كما نرجو.
اشتعلت الفتنة سريعًا داخل البلدان المستقلة بسبب الصراعات العرقية وسط الشعوب، فرغم أنّ يوغوسلافيا جمعت بين العديد من الأعراق داخل حدود موحّدة لما يقارب 70 سنة، إلاّ أنّها لم تستطع أن تدمجهم حقًا، وبقيت كل فئة ملتفّة حول نفسها في إطارٍ جغرافي خاص.
مثلًا، في البوسنة والهرسك هناك ثلاثة أعراق مختلفة: البوشناق المسلمون، الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك، ولكل مجموعة ممثّلين سياسيّين خاصّين بها في مجلس الرّئاسة للبوسنة والهرسك، فلم تكن هذه المجموعات تعتبر نفسها جزءًا من دولة واحدة بل كانت تنظر إلى نفسها ككيان منفصل تمامًا يمتلك مصالح ومطالب مختلفة عن غيره، وقد تجلّى هذا مثلًا في رفض صرب البوسنة المشاركة في استفتاء الاستقلال.
حرب البوسنة
في الثالث من شهر مارس سنة 1992، أعلن الرئيس علي عزت بيجوفيتش استقلال جمهورية البوسنة والهرسك رسميًا عن يوغوسلافيا، وفي الثاني من شهر أبريل رحّب المذيع سناد حجي فيزوفيتش بمستمعيه قائلًا:
مساء الخير، هذه هي الحرب.
يقول علي في مذكّراته:
بدأ العدوان على البوسنة والهرسك في الأول من أبريل عندما واجهت وحدات شبه عسكرية من صربيا مدينة “بيليينا”، والعديد يعتبرون أنّ الحرب قد بدأت دون سابق إنذار عندما قامت قوات الاحتياط والمتطوّعون من صربيا والجبل الأسود بغزو البوسنة، حيث انضمّت تلك القوات رسميًا إلى الجيش اليوغوسلافي في تيتو غراد وأوجيتسه.
رغم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بالدولة الوليدة، إلاّ أنّ الجيش الشعبي اليوغوسلافي والمتطوّعين من صرب البوسنة لم يجدوا مانعًا من مهاجمة العديد من المناطق المأهولة بالبوشناق، وفرضوا حصارًا تاريخيًا على العاصمة سراييفو، فانطلقت بذلك سلسلة دموية من التصفية العرقية ضد المسلمين في دولة البوسنة والهرسك، واندلعت أشرس الحروب بعد الحرب العالمية الثانية!
مجزرة سريبرنيتشا
كان صرب البوسنة يهاجمون المناطق المدنية بلا رحمة، ولم يكن في أيدي الشعب الأعزل سوى النّزوح واللجوء إلى المناطق التي يُرجى فيها الأمان، وبهذه الطريقة تمكّن الجنود الصرب والجيش اليوغوسلافي من الاستيلاء على حوالي 70% من مساحة البوسنة والهرسك بحلول سنة 1994.
استمرّ الحصار على سراييفو ثلاث سنوات ونصف (من 1992 إلى 1996) ليكون هو أطول حصار يُفرض في التاريخ الحديث، وتأذّى كروات البوسنة من هجومات الصرب فاستعانوا بالحكومة الكرواتية التي أمدّتهم بالقوة والعتاد للحفاظ على مناطقهم في البوسنة، وبهذا انضمّ الكروات إلى أطراف الصراع.
دولة البوسنة والهرسك كانت فتيّة آنذاك ولم يكن لها جيش وعتاد بما للكلمة من معنى، وكانت غير قادرة على التصدي لكل الأخطار التي تحيط بها خصوصًا وسط الصمت الدّولي الشنيع الذي استغرق وقتًا طويلًا مات خلاله ما يقارب مئة ألف من الأبرياء، واغتُصبت أكثر من عشرين ألف امرأة، وشُرِّد حوالي مليوني شخص.
في شهر يوليو 1995، شهدت مدينة سريبرنستشا إبادة جماعية وحشية قام بها الصرب ضد هذه المدينة التي كانت تقطنها أغلبية مسلمة وكانت تصنّف كـ “منطقة آمنة” من طرف الأمم المتحدة، وذلك بعد أن سلّمت المدينة أسلحتها لتتم حمايتها من طرف الفرق الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام.. القوات التي سلّمت من لجأ إليها إلى الجنود الصرب.
مجزرة سريبرنيتشا البشعة خلّفت ثمانية آلاف قتيل والكثير من النساء اللواتي اغتُصبن خلال الإبادة وبعدها، واحتلّ بذلك هذا التطهير العرقي المرتبة الأولى في الشّناعة بعد جرائم الحرب العالمية الثانية.
اتّفاقيات دايتون
في شهر أغسطس من عام 1995، تدخّل حلف الناتو -أخيرًا- في ميادين البوسنة والهرسك وقاد عدّة غارات جوية ضد مواقع الجماعات المسلّحة لصرب البوسنة، وفي 14 سبتمبر تمّ تعليق هذه الهجومات لفتح مجال الحوار أمام أطراف الصراع، وقد نجح ذلك بالفعل إذ تمّ التوصل إلى اتّفاقية سلام مبدئية يوم 25 سبتمبر 1995 في نيويورك تمّ بموجبها إعلان وقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا، لتنطلق بعدها مفاوضات السلام في دايتون (الولايات المتحدة الأمريكية) في شهر نوفمبر بحضور رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية ورئيس جمهورية كرواتيا وعلي عزت بيجوفيتش رئيس البوسنة والهرسك الذين وقّعوا على النّص المبدئي للاتّفاقيات أثناء مؤتمر دايتون، ثم أنهوا سلسلة المفاوضات باتّفاق سلام نهائي وقّعوا عليه يوم 14 ديسمبر 1995 في باريس (فرنسا).
من أهمّ ما جاء في هذه الاتفاقيات هو الحفاظ على وحدة أراضي البوسنة، وتقسيمها سياسيًا إلى قسمين: اتحاد البوسنة والهرسك ذو الطابع الفيدرالي والذي يجمع البوشناق والكروات، وجمهورية صرب البوسنة. كما نصّت اتفاقية دايتون على تشكيل مجلس رئاسة بوسني ليتولّى رئاسة دولة البوسنة والهرسك بدل تعيين رئيس مباشر، ويتشكل مجلس الرئاسة من ممثّل منتخب عن كل فئة (البوشناق، الكروات والصرب) يتداولون الحكم طوال عهدة رئاسية تدوم 4 سنوات، على أن يترأّس المجلس صاحب أكبر عدد من الأصوات.
النهاية..
فاز علي عزت بيجوفيتش في الانتخابات الرئاسية التي أُجريَت في سبتمبر 1996، فانضمّ إلى مجلس الرئاسة ممثِّلًا لمسلمي البوسنة.
وعند انتهاء عهدة ذلك المجلس الرئاسي سنة 2000، قرّر علي عزت بيجوفيتش اعتزال السياسة، وكان في تلك الفترة مصابًا بمرض القلب.
توفي الرئيس والمفكّر والفيلسوف علي عزت بيجوفيتش في مستشفى سراييفو المركزي نتيجة ضعف في حالة قلبه وحدوث نزيف دموي في الرئتين وذلك يوم 19 أكتوبر 2003 عن عمر يناهز 78 سنة، تاركًا خلفه إرثًا فكريًا قيّما في الموروث الثقافي الإسلامي والعالمي (أهم كتبه: الإسلام بين الشرق والغرب، هروبي إلى الحرية)، ومسيرةً فذّةً قلّ من يحتفي بمثلها |
|
|
|