وللتمر حكمتها عند الفطر
الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، والصلاة والسلام على النبي الهاشمي المختار، وعلى آله الأطهار، وصحابته الغر الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد:
فإن للتمر فوائد جمة نجد ابن القيم – رحمه الله – قد أشار إليها في معرض كلامه على الرطب فيقول: "طبع الرطب طبع المياه حار رطب، يقوي المعدة الباردة ويوافقها، ويزيد في الباه، ويخصب البدن، ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة، ويغذو غذاء كثيراً، وهو من أعظم الفاكهة موافقة لأهل المدينة وغيرها من البلاد التي هو فاكهتهم فيها، وأنفعها للبدن، وفي فطر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الصوم عليه، أو على التمر، أو الماء؛ تدبير لطيف جداً، فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا تجد الكبد فيها ما تجذبه وترسله إلى القوى والأعضاء، والحلو أسرع شيئاً وصولاً إلى الكبد، وأحبه إليها، ولاسيما إن كان رطباً، فيشتد قبولها له، فتنتفع به هي والقوى، فإن لم يكن فالتمر لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكن فحسوات الماء تطفئ لهيب المعدة، وحرارة الصوم، فتتنبه بعده للطعام، وتأخذه بشهوة1.
من كلام ابن القيم – رحمه الله – ندرك السر في استحباب الإفطار على التمر للصائم، ولذا ليس غريباً أن نجد النبي -عليه الصلاة والسلام – كان يواظب في فطره عليه يقول أنس بن مالك – رضي الله عنه -: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء"2 فالحديث دليل على استحباب الإفطار بالرطب، فإن عَدِمَ فبالتمر، فإن عدم فبالماء3.
بل وأوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته من شرقها إلى غربها أن تجعل فطرها يوم صيامها على تمر فَعنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلْيُفْطِرْ عَلَى التَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ التَّمْرَ فَعَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ))4، يقول صاحب السلسة الصحيحة معلقاً: "والغرض من ذكر الحديث إنما هو التذكير بهذه السنة التي أهملها أكثر الصائمين، وبخاصة في الدعوات العامة التي يهيأ فيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب، أما الرطب أو التمر على الأقل فليس له ذكر، وأنكر من ذلك إهمالهم الإفطار على حسوات من ماء، فطوبى لمن كان من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}5.6
ولك أن تتأمل:
فإن التمر مع صغر حجمه إلا أنه ينزل من علياء الشجرة الباسقة في السماء – النخلة -، وهي شجرة طيبة كالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمرتها أول طعام بعد حليب الأم يدخل جوف الطفل في التحنيك في العقيقة – يوم السابع -، وهو أول طعام يفطر عليه الصائم، وخير سحور له، وهي التي أمر الله – تعالى – السيدة العذراء البتول – عليها السلام والرحمة – أن تهز بجذعها لتأكل هنيئاً مريئاً بعد وضعها المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام -، وكل ذلك يعطي دلالات عظيمة على قيمة هذه الشجرة، وما فيها من نعم كريمة، وأسرار حكيمة.
ولعل ما جاء في الجامع الصحيح "كان إذا كان الرطب لم يفطر إلا على الرطب، وإذ لم يكن الرطب لم يفطر إلا على التمر"7، وما سبق من الأحاديث الأنفة الذكر يبعثنا على سؤال: ما الحكمة من التأكيد على الرطب والتمر قبل تناول أي طعام؟ وماذا قال العلماء الأقدمون في الإفطار على الرطب أو التمر؟
لقد جاءت الأبحاث الطبية لكي تكشف عن آثار التمر العجيبة التي تعادل آثار العقاقير الميسرة لبعض العمليات المعضلة، كما أن له تأثيراً مهدئاً للأعصاب وذلك بتأثيره على الغدة الدرقية، لذا ينصح الأطباء بإعطاء الأطفال والكبار من العصبيين ثمرات من التمر في الصباح من أجل حالة نفسية أفضل، يقول صاحب حاشية البيجرمي: "ومما يسن طباً وشرعاً الفطر على التمر"8، وإلى هذا أشار العلماء قديماً، وجاء الطب الحديث ليدعم هذه النظرية، يقول صاحب الفتح: "والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان، ويعبر به المنام، ويرق به القلب، وهو أيسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقاً كالعسل رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهم9، وروى فيه حكمة أخرى عن ابن عون أنه سئل عن ذلك فقال: إنه يحبس البول، قلت: يحتمل أن يكون التعيين في التمر لكونه أيسر الموجود وأكثره، وأكثر قوتهم مع ما فيه من الحلو، وقيل الحكمة فيه: أن النخلة ممثلة بالمسلم، وقيل: لأنها هي الشجرة الطيبة"10.
أما العلماء المعاصرون فلم يخرجوا عما نقله لنا الأقدمون، لكنهم استفاضوا في الحكمة من ذلك ومنهم د. صبري القباني صاحب الكتاب الشهير: "الغذاء لا الدواء" إذ يقول: "فالصائم يستنفد في نهاره عادة معظم وقود جسده، أي: يستنفد السكر المكتنز في خلايا جسمه، وهبوط نسبة السكر في الدم عن حدها المعتاد هو الذي يسبب ما يشعر به الصائم من ضعف وكسل، وزوغان في البصر وعدم قدرة على التفكير والحركة، لذا كان من الضروري أن نمدّ أجسامنا بمقدار وافر من السكر ساعة الإفطار، فالصائم المتراخي المتكاسل في أواخر يوم صيامه تعود إليه قواه سريعاً، ويدب النشاط إلى جسمه في أقل من ساعة إذا اقتصر في إفطاره على المواد السكرية ببضع تمرات، مع كأس ماء، أو كأس حليب، وبعد ساعة يقوم الصائم إلى تناول عشائه المعتاد، ولهذا النمط من الإفطار ثلاث فوائد:
1- أن المعدة لا ترهق بما يقدم إليها من غذاء دسم وفير، بعد أن كانت هاجعة نائمة طوال ثماني عشرة ساعة تقريباً، بل تبدأ عملها بالتدريج في هضم التمر السهل الامتصاص، ثم بعد نصف ساعة يقدم إليها الإفطار المعتاد.
2- أن تناول التمر أولاً يحد من جشع الصائم، فلا يقبل على المائدة ليلتهم ما عليها بعجلة دون مضغ أو تذوق.
3- أن المعدة تستطيع هضم المواد السكرية من التمر خلال نصف ساعة، فيزول الإحساس بالدوخة والتعب سريعاً"11.
أما الدكتور عبد الباسط محمد سيد فلا يبعد عما قاله صاحبه فيقول: "فالتمر غني بالسكريات الأحادية التي تعطي سعرات حرارية عالية في فترة زمنية قصيرة لسهولة هضمه وامتصاصه، لذلك أوصى الرسول – صلى الله عليه وسلم – الصائمين أن يبدؤوا إفطارهم برطب أو تمر لكي يعوضوا ما فقدوا من سكريات في يوم صيامهم، وقد أوضحت الدراسات العلمية والطبية الحديثة صحة وفاعلية ما نصح به الرسول – صلى الله عليه وسلم – الصائمين عن بدء إفطارهم"12، "والأطباء عادة ينصحون الصائمين الذين يشعرون بالدوخة، والتراخي، وزوغان البصر؛ ينصحونهم بتناول بضع تمرات عند إفطارهم، فتزول عنهم تلك الدوخة خلال نصف ساعة من تناولهم للتمر"13.
وخلاصة القول: أن الصحابة الكرام والتابعين ومن تبعهم فسروا الأحاديث السابقة تفسيراً قريباً مما فسره العلم الحديث، وبينوا فوائد الرطب والتمر في الصيام، وذكروا الفوائد من تجارب مرت معهم ومع غيرهم، ولم ينسوا ذكر بركة التمر بسبب حرص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ادخاره، ويستحب أن يجعل فطره وتراً إما ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، وهذا الذي يفيده حديث أنس – رضي الله عنه – "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات،…"14 قال صاحب المغني: "والمستحب أن يفطر على التمر، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يفطر عليه، ويأكلهن وتراً لقول أنس: ويأكلهن وتراً؛ لأن الله – تعالى – وتر يحب الوتر، ولأن الصائم يستحب له الفطر كذلك"15.
والحكمة في جعلهن وتراً قال المهلب: "فللإشارة إلى وحدانية الله – تعالى -، وكذلك كان – صلى الله عليه وسلم – يفعله في جميع أموره تبركاً بذلك"16.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين |
|
|
|