نقطة الضعف المدمِّرة
لكل منا نقطة ضعفه التي يتسلل منها الشيطان إلى قلبه لينقل إليه العدوى ويبث النجوى ، وهي تختلف من مريض لآخر ، لكن الحاذق اليوم هو من عرف نقطة ضعفه ، وابتعد عن كل ما يوصل إليها ، فإن كانت نقطة ضعفه النساء سعى في شغل فراعه وتجنَّب أماكن الاختلاط والتبرج ، وإن كانت انهياره في الخلوة في مواجهة الذنوب ؛ حرص على الذوبان في مجتمع الصالحين وعدم التفرد ما استطاع إلى أن تقوى مناعته ، وإن كانت نقطة ضعفه شرهه في جمع المال زار من هو أفقر منه وعاد أصحاب الأمراض المستعصية حتى يعتبر ، وبهذا يغلق الباب أمام تفاقم المرض ، بل يشفى منه بمرور الوقت بإذن الله.
إن معرفة نقطة الضعف هي نصف الطريق إلى الشفاء ، ولذا كان من جميل الدعاء : " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه " ، فالمشاكل العويصة تُحلُّ بمعرفة الحق أولا ، ثم بامتلاك الطاقة النفسية والقوة الروحية لاتباع هذا الحق ، فإن عرفت نقطة ضعفك فقد قطعت شوطا طويلا في طريق العلاج ، وكثير من الناس لا يعرف عيبه ، ومنهم من يعرف ويجادل عنه أو ينفيه وكأنه تهمة ، وليس هذا من سمات المؤمنين في شيء ، فإن صاحب القلب الحي يفرح بمن أهدى إليه عيوبه ، ويتخذ صاحبا يُحصي عليه ، ويُلِحُّ على من يخالطه في أن يرشده إلى نقائصه.
وقد يقوى المرء في جانب ويضعف في آخر ، وقد يعرف نقطة ضعفه وقد لا يعرفها ، وليس غير التجربة خير برهان ، ولذلك لما اختلف الناس في أيهما أزهد عمر بن عبد العزيز أم أويس القرني؟ قال أبو سليمان الداراني : " كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني ، لأن عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزَهَد فيها ، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون؟ ليس من جرَّب كمن لم يُجرِّب " .
يوم العرض على القلب
وقد سبق وأن أرشدك نبيك إلى أهمية معرفة نقطة الضعف حين قال :
« تُعرَض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا ، فأي قلب أُشْرِبَهَا نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نُكِت فيه نكتة بيضاء ؛ حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مُرْبَادًّا كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشْرِبَ من هواه » .
والإتيان بالفعل « تُعرض » بصيغة المضارع دلالة على أن العرض مستمر طيلة الحياة لا ينتهي حتى تنتهي أنت إلى قبرك ، لكن الفتن تختلف ؛ ففتنة الشباب غير فتنة الشيوخ ، لأن شهوة النساء مثلا في قلوب الشباب أقوى ، وطول الأمل والحرص في قلوب الشيوخ أبقى ، فلكل عمر فتْنَتُه ، وقد يصمد الرجل أمام فتنة سنين ؛ فإذا كان آخر عمره هوى فيها ، بل ولكل جنس أيضا فتْنَتُه ، ففتن الرجال غير فتن النساء ، بل لكل زمن فتن ، والشيطان في كل الأحوال ملحاح لا يدع المحاولة مع أي أحد وفي أي عمر كان.
ومعنى « عُودا عُودا » أى تُعاد وتكرَّر مرة بعد مرة ، لذا أوردها النووي في رواية بلفظ « عَوْدا عَوْدا » ، ومعنى عرض الحصير أي كما يُنسج الحصير عودا عودا ، وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه ، فشبَّه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد ، فمن القلوب من يُشرَب هذه الفتنة ، ومعنى أُشربها أي استسلم لها حتى دخلت فيه دخولا تاما وحلت منه محل الشراب ، ومنه قوله تعالى ﴿ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل ﴾ [ البقره : 93 ] أي حب العجل.
يا تائها عن معرفة نقطة ضعفه : أما عرفت قصتك؟! أما دريت خبرك؟! أنت الذي كانت له الفتنة لقلبه كحصان طروادة ، استخدمها الشيطان ليتسلل بها إلى قلعته ، ويجتاز كافة حراسات القلب وجنوده ؛ حتى إذا دخل وتمكن استمر الزحف ، فانهارت المناعة واستسلمت القلعة
وأمام هذا السيل المنهمر الذي تتابع على القلب يسودُّ القلب ، ويظل يهوي وينتكس ويذوي ويرتكس حتى يصبح كالكوز مُجَخِّيا أي مقلوبا ، وهل يبقى في الكوب المقلوب شيء؟ وكذلك هو لا يبقى ولا يثبت فيه أي خير ، ومعنى آخر لقوله « منكوسا » أي تنقلب عنده حقائق الأمور ، فيرى الباطل حقا والحق باطلا ، والهلاك نجاة والنجاة هلاكا ، والحامض حلوا والسكر ملحا ، وهذه عاقبة كل من استسلم لضعفه وركع لهواه.
ومن يك ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يجد مُرَّا به الماءَ الزلالا
وتأمَّل قوله : « مُربادَّا » أي يحمل بقايا بياض فى عموم سواد ، وهذا دلالة على أنه ما كان أسود يوم خلقه الله ، بل كان أبيض ناصع بياض الفطرة ليحمل الخير ويدوم عليه ؛ لكنه اختار بإرادته الذي هو أدنى ، وقدَّم الخبيث على الطيب ، وطرد خيره مؤثرا شرَّه ، وأحيا فجوره وأمات بِرَّه ، فلم يبق من البياض والفطرة والإيمان إلا بقع من البياض الغارقة في لجة الخطيئة وطوفان السواد.
والحديث في مجمله يبث الرعب فينا ليدفعنا بقوة إلى ضرورة مراجعة النفس لاكتشاف نقطة الضعف التي يتسلل منها الشيطان ليحوِّل صاحب القلب الحي في النهاية إلى صاحب قلب منكوس ، وما ذاك إلا من تهاونه في معرفة عيب نفسه في البدء ، وعدم سدِّ هذا المنفذ على الشيطان بسد فولاذي الإيمان وسعيه الحثيث في العلاج ، نعم نقطة ضعف واحدة ليس غير كفيلة أن تؤدي إلى انتكاسة قلبك وانقلاب روحك ، وأنت السبب إذ لم تسمع وصية الحبيب ، أو سمعتها ورميتها وراء ظهرك ، ثم تبكي
وما مثلك بنقطة ضعفك مع شيطانك إلا كحامل قطعة لحم وحوله كلب جائع ، فلا يزال الكلب ملازما لك حتى ترمي عنك قطعة اللحم ، فإن رميتها ثم زجرته انصرف عنك ، وإلا ظل يحوم حولك يطمع في لحظة غفلة أو سِنة نوم ليهجم
وفي المقابل ينتصب القلب الحي صخرة شامخة تتكسر عليها أمواج الفتن ، وهذا سر تشبيهه بالصفا. قال القاضي عياض رحمه الله : " ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه ، لكن صفة أخرى لشدته على عقد الايمان وسلامته من الخلل ، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا ، وهو الحجر الاملس الذى لا يعلق به شيء
ومن هذه القلوب الحية قلب علم الأولياء عبد القادر الجيلاني [ت:561] الذي محى نقطة ضعفه قبل أن تظهر ، وأزالها من أرض قلبه حتى قبل أن تبرز ، وانظروا إليه وإلى شدة عزمة وقوة بأسه وهو يقول : " إذا وُلِد لي ولد أخذته على يدي ، فأُخرِجه من قلبي ، فإذا مات لم يؤثِّر عندي موته شيئا "