ودع قلقك واطمئن
فيا أيها المسلمون، خلقَ اللهُ الناسَ من نفسٍ واحدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1].
نفسٌ واحِدة تكتسِبُ بحكمةِ الله وقُدرتِه أوصافًا، وتحمِلُ سِماتٍ وتعيشُ أحوالًا، يتنازعها الحق والباطل، والخير والشر، والطاعة والمعصية، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].
معاشر الكرام، لقد اعتنَى القرآنُ الكريمُ بهذه النفسِ الإنسانيَّة غايةَ العناية؛ لأن الإنسانَ مَحَلُّ التكليف، والمقصودُ بالهدايةِ والتوجيهِ والإصلاحِ، ومن شرحَ اللهُ صدرَه للإسلام، وعمَرَ قلبَه بالإيمان اطمأنَّت نفسُه، وهدَأَت سريرتُه، وتنزَّلَت عليه السَّكينة، وامتلأَ قلبُه بالرِّضا؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]، وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 123، 127].
الله أكبر! كم من مُسلمٍ تكالَبَت عليه الهُموم، فتوضَّأ وتطهَّر، ثم قصَدَ إلى ناحية من بيتِه، أو مشَى إلى مسجِده، فتلا من كتابِ ربه ما تيسر له، أو صلَّى ما كُتِبَ له فانزاحَت هُمومُه،
وقامَ كأنَّما نشِطَ من عِقال؟! والله أكبر! كم من مُسلمٍ اضطجَعَ على جنبِهِ الأيمن في فراشه،
وقرأ بعضَ آيات، أو تلا بعضَ أوراد، فنامَ قريرَ العين محفوظًا بحِفظِ الله الحفيظ سبحانه؟!
والله أكبر! كم من مُسلمٍ أصابَه قلقٌ أو وحشةٌ، فاستأنَسَ بآياتٍ من كتابِ ربِّه، فوجدَه نعمَ الأنيس، وخيرَ الجليس؟! والله أكبر! كم من مُسلمٍ نالَه فقرٌ، أو مسَّه جوعٌ، فوجدَ في كتابِ الله شِبَعَه وغِناه؟!
والله أكبر!
كم من غنيٍّ كادَ أن يُطغِيَه غِناه، فأنقَذَه مولاه بآياتٍ من كتابِه، فانكشَفَ له السِّتار، وتذكَّر النِّعَم، وابتغَى ما عند الله؟! الصالِحون الطيِّبُون المُحسِنون، المشاؤون للمساجِد هم المُطمئنُّون بذِكر الله، وهم الأقوَى والأقدرُ - بعون الله تعالى لهم - على مواجهة مصاعب الحياة وتقلُّباتها،
لا تُعكِّرُ التقلُّبات طُمأنينَتَهم، ولا تكدِّر المُنغِّصاتُ سكينتَهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ، وجمعَ لَه شملَهُ، وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ، وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ» .
فأين الراحة - يا معاشر الكرام - إذا كانت الدنيا هيَ مُنتهَى الأمل؟! وأين الطُّمأنينةُ إذا كانت الدنيا هيَ غايةُ السعي؟! هدوءُ النفس وراحةَ البال - أحبتي الكرام - نعمةٌ عظيمةٌ، ومن أصابَه الأرَق، أو دبَّ إليه القلَق، عرفَ معنى هذه النعمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 23، 24].
معاشر المسلمين، مساكِينٌ أهل هذا العصر، حين يدرُسُون النفسَ الإنسانيَّة، مقطوعة الصِّلة بالله خالِقِها ومُدبِّرها، ومُقدِّر أحوالِها وشُؤونِها، يتكلَّمون عن أثر البيئة، وعن أثر الأُسرة، وعن أثر الاقتِصاد، ولا يتكلَّمون عن الهُدى والضلال، والكُفر والإيمان، والطاعة والمعصية.
فانقَلَبَت عندهمُ المعايِير، واضطرَبَت لديهمُ المقايِيس، وذهبَتِ الفضائِل، وضاعَتِ القِيَم،
وانحلَّتِ الأخلاق، فلم تُفِد حلولُهم، ولن تُجدِي اختباراتُهم ولا مُختبراتُهم، من ضلالِهم وانحِرافاتِهم:
أن عَدُّوا ضبطَ الشهوات كبتًا، والإحساسَ بالذنبِ تعقيدًا، بل المرأةُ عندهم إذا لم تتَّخِذ صديقًا يُعاشِرُها بالحرام، فهي مريضةٌ شاذَّة، ونعوذُ بالله عز وجل من انتِكاسِ الفِطَر، وخرابِ العقول، وذَهابِ الغَيرَة.
معاشر الأحبة، إن علاجٍ القلقِ هو الإيمان، فالإيمانُ والاستِقامةُ كفِيلانِ بإبعادِ القلَق والتوتُّر،
والصلاةُ أقربُ طريقٍ لبثِّ الطُّمأنينة في النفوس، والهُدوء في الأعصاب.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذَا رَكَعَ قالَ: «اللَّهُمَّ لكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي وَعَصَبِي» .
أخي الحبيب، ودع قلقك واطمئن، لا تُفسِد سعادتك بالقلق، ولا عقلَك بالتشاؤُم، وتذكر أن المسلمَ مُؤمنٌ بأقدارِ الله تعالى، ما شاءَ الله كان، وما لم يشَأ لم يكُن؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
سُئل علقمة عن هذه الآية، فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لذلك ويرضى؛ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ، يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي» .
معاشر الأحبة، الله سبحانه هو الرزَّاق، ورِزقُ الله لا يجُرُّه حِرصُ حريص، ولا يرُدُّه كراهيةُ كارِه؛ قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22، 23]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِن رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».
أحبتي الكرام، المُؤمنُ يعيشُ وذِكرُ الله شِعارُه، والتوكُّلُ على الله دِثارُه، وما تلذَّذَ المُتلذِّذُون بمثلِ ذِكر الله؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
معاشر المُسلمين، الالتِجاءُ إلى الله تعالى، والتوكُّل عليه، واستحضار معيته، وحُسن الظنِّ به، والتعلُّقُ به ودُعاؤُه طريق تفريج الهُموم، وسبيل تفريج الكُروب، ووسيلة إبعاد القلَق؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
وقال تعالى مخاطبًا نبيه موسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 41 - 46].
وقال تعالى في ذكر قول إبراهيم عليه السلامُ لقومه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].
وبعد عباد الله: يجمعُ لكم ذلك كلَّه كتابُ الله؛ فهو الموعظة والشفاء لما في الصدور، والهدى والرحمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58]، بتلاوتِه: تطمئنُّ القلوبُ فلا تضطرب، وبالاستِمساكِ به: تسكن النفوس فلا تفزع، وبتدبُّره: يهدأ الضمير فلا يرتاع.
فيقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
فائدة جليلة:
إذا أصبحَ العبدُ وأمسَى وليس هَمه إلا الله وحده، تَحَملَ اللهُ سبحانه حوائجَه كلها، وحَمَلَ عنه كل ما أهَمَّهُ، وفرَّغَ قلبَه لمحبَّتِه، ولسانَه لذكرِه، وجوارحَه لطاعتِه، وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّهُ؛ حَملهُ اللهُ همومَها، وغُمومَها، وأنكادَها، وَوَكَلَه إلى نفسه، فشَغَلَ قلبَه عن محبتِهِ بمحبةِ الخلق، ولسانَهُ عن ذكرِه بذكرهم، وجوارحَه عن طاعتِه بخدمتهم وأشغالهم؛ فهو يَكْدَحُ كَدْحَ الوحشِ في خدمة غيره؛ كالكِيرِ ينفُخ بطنَه، ويَعْصُرُ أضالِعَه في نفعِ غيره.
فكل من أعرضَ عن عبوديةِ اللهِ، وطاعتِه ومحبتِهِ، بُلِيَ بعبودية المخلوق، ومحبتِه، وخدمتِه؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36، 37]؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
معاشر الأحبة، إن المؤمن لا يستسلم لنزواته ورغباته، بل يوقن بأنها مجرد لذة فانية، لا ينبغي الاستسلام لها؛ لذلك تجد المؤمن في أقصى درجات الاتزان النفسي، والإشباع العاطفي، لا تجده مهمومًا مغمومًا على فوات حظ من حظوظ الدنيا الفانية.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
سمعت ابن تيمية - رحمه الله تعالى - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهيَ معيْ لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في مَحْبَسِهِ في القلعة:
لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبًا، ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.
وقال لي مرة:
المحبوس من حُبِسَ قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه، وكان بعض العارفين يقول:
لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبةُ الله تعالى ومعرفته وذِكره، وقال آخر: إنه لتمرُّ بالقلبِ أوقاتٌ يرقُص فيها طربًا، وقال آخر: إنه لتمرُّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عَيْشٍ طيِّب.
فمحبةُ الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته - هو جَنةُ الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المُحبين، وحياةِ العارفين.
وإنما تَقَرُّ أعين الناس بهم على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قَرتْ عينه بالله قَرتْ له كل عين، ومن لم تَقَرَّ عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
وإنما يصدِّق بهذه الأمور من في قلبه حياة، وأما ميت القلب فيوحِشُك، ثُم فاسْتأنِسْ بغيبته ما أمكنك، فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك، فإذا ابتليت به، فأعطه ظاهرك، وتَرَحَّلْ عنه بقلبك، وفارقه بسرِّك، ولا تشتغل به عما هو أولى بك.
اللَّهُمَّ لَوْلَا أنْتَ ما اهْتَدَيْنَا، ولَا تَصَدَّقْنَا ولَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا إنَّ الأُلَى قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، وإنْ أرَادُوا فِتْنَةً أبيْنَا.
[1] مراجع الخطبة الرئيسة:
- الفوائد لابن القيم (ص: 121).
- الوابل الصيب لابن القيم (ص: 105-106).
- خطبة بعنوان: علاج القلق والهموم لصالح بن حميد، موقع ملتقى الخطباء.
- مدارج السالكين لابن القيم (1/ 431-454).
[2] أُلقيت هذه الخطبة يوم الجمعة 1443/06/25ه، بمسجد الإمام الذهبي - بحي النعيم بجدة
__________________
|