الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 - 3].
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي
الله عنه - قال: "الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه
الله إياه، قال أبوبشر: قلت لسعيد: إن أناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه
الله إياه"[1].
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: "بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر"[2].
وهذا الكوثر يصب منه ميزابان في حوض
النبي - صلى
الله عليه وسلم -، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر - رضي
الله عنه -: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - عندما ذكر الحوض قال: "يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ"[3].
وفي رواية أخرى لمسلم: "يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق"[4].
وهذا الحوض، وصفته ثبتت بطرق عن جمع من الصحابة عن
النبي - صلى
الله عليه وسلم، واشتهر ذلك واستفاض، بل تواترت في كتب السنة من الصحاح، والحسان، والمسانيد، والسنن، والحوض هو مجمع الماء.
قال النووي - رحمه
الله -: "وهذا تصريح بأن الحوض حقيقي على ظاهره كما سبق، وأنه مخلقو موجود اليوم"[5].
وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه
الله -: "والحوض موجود الآن"[6] لما رواه البخاري، ومسلم من حديث عقبة بن عامر: أنَّ النَّبِيَّ - صلى
الله عليه وسلم - خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن"[7].
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي
الله عنه -: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: "ومنبري على حوضي"[8].
ولهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض[9]. اهـ.
وأما في كيفية مائه، فإنه أشد بياضًا من اللبن، هذا اللون، أما في الطعم فإنه أحلى من العسل، وفي الرائحة أطيب من المسك.
روى مسلم من حديث أبي ذر: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - عندما ذكر الحوض قال: "ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل"[10]، وفي رواية في الصحيحين: "وريحه أطيب من المسك"[11].
أما آنيته فعدد نجوم السماء، وهذا ورد في بعض ألفاظ الحديث في الصحيحين[12]، وفي بعضها: "وآنيته كنجوم السماء"[13]، وهذا لفظ أشمل لأنه يكون كالنجوم في العدد، وفي الوصف بالنور واللمعان، فآنيته كنجوم السماء كثرة، وإضاءة، وفي بعض روايات الصحيح: أن هذه الأباريق من ذهب، وفضة[14].
ومساحة هذا الحوض طوله شهر، وعرضه شهر، قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا يقتضي أن يكون مدورًا، لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب إلا إذا كان مدورًا، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد
النبي - صلى
الله عليه وسلم - من سير الإبل المعتاد[15]، فقد جاء في الصحيحين: "أن عرضه مثل طوله من عمان إلى أيلة"، وعمان بلدة بالبلقاء من الشام، وأيلة بلدة بطرف بحر القلزم من طرف الشام، وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر[16].
وفي رواية أخرى: "ما بين جرباء وأذرح"، وهما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام[17]، وفي رواية أخرى: "قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن"[18]، وفي أخرى: "ما بين ناحيتيي حوضي كما بين صنعاء والمدينة"[19].
وذكر بعض العلماء تأويلات لاختلاف هذه المسافات التي ذكرت في عرض الحوض وطوله.
منها أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - أخبر بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بها كأن
الله تفضل
عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة، وقيل غير ذلك[20].
وزمن الورود على الحوض قبل العبور إلى الصراط، لأن المقام يقتضي ذلك، حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل العبور إلى الصراط، وقد رجح بعض أهل العلم ذلك، ومن شرب من الحوض لم يظمأ أبدًا، لما ورد في الصحيحين من حديث عبد
الله بن عمرو: "من شرب منه لم يظمأ أبدًا"[21].
أما أسباب الورود على الحوض، فمنها:
أولًا: التمسك بالكتاب والسنة، والثبات على ذلك، والبعد عن البدع المحدثة في الدين وكبائر الذنوب، روى الحاكم في المستدرك: من حديث أبي هريرة - رضي
الله عنه -: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب
الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض"[22].
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي
الله عنه -: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: "إني فرطكم على الحوض، من مر بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن غير بعدي" فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن عن ديننا[23].
قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون للكبائر.
قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر، والله أعلم[24]. اهـ.
ثانيًا: عدم إعانة الولاة الظلمة على ظلمهم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن عجرة أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال له: "أعاذك
الله من إمارة السفهاء، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردوا على حوضي"[25].
ثالثًا: الصبر على ما يصيب المؤمن من نقص في الدنيا، واستئثار غيره بها، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم -: "سترون بعد أثرة شديدة، حتى تلقوا
الله وروسوله - صلى
الله عليه وسلم - على الحوض"[26].
رابعًا: المحافظة على الوضوء، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة - رضي
الله عنه -: أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - عندما ذكر الحوض قال: "والذي نفسي بيده إني لأذود عنه كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه قالوا: يا رسول
الله أوتعرفنا؟ قال: نعم، تردون علي الحوض غرًا محجلين من آثار الوضوء ليست لأحد غيركم"[27].
اللهم أوردنا حوض نبيك، واجعلنا من المتبعين لسنته، اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من أتباعه مع النبيين، والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى
الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] برقم (٦٥٧٨).
[2] برقم (٦٥٨١).
[3] برقم (٢٣٠٠).
[4] برقم (٢٣٠١).
[5] شرح صحيح مسلم (5/59).
[6] شرح العقيدة الواسطية (2/157).
[7] البخاري برقم (٦٥٩٠)، ومسلم برقم (٢٢٩٦).
[8] البخاري برقم (٦٥٨٨)، ومسلم برقم (١٣٩١).
[9] شرح العقيدة الواسطية (2/157).
[10] برقم (٢٣٠١).
[11] صحيح البخاري برقم (٦٥٧٩)، وصحيح مسلم برقم (٢٢٩٢).
[12] البخاري برقم (٦٥٨٠)، ومسلم برقم (٢٣٠٣).
[13] صحيح البخاري برقم (٦٥٧٩)، وصحيح مسلم برقم (٢٢٩٢).
[14] صحيح مسلم برقم (٢٣٠٣).
[15] شرح العقيدة الواسطية (2/159).
[16] صحيح مسلم برقم (٢٣٠٠).
[17] صحيح البخاري برقم (٦٥٧٧)، صحيح مسلم برقم (٢٢٩٩).
[18] البخاري برقم (٦٥٨٠)، ومسلم برقم (٢٣٠٣).
[19] البخاري برقم (٦٥٩١)، ومسلم برقم (٢٢٩٨).
[20] انظر: فتح الباري (11/472).
[21] البخاري برقم (٦٥٧٩)، ومسلم برقم (٢٢٩٢).
[22] وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (٢٩٣٧).
[23] صحيح البخاري برقم (6583-6584، 6593)، وصحيح مسلم برقم (٢٢٩٠).
[24] شرح صحيح مسلم للنووي (1/137).
[25] (22/332) برقم (14441)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم.
[26] البخاري برقم (٣١٤٧)، ومسلم برقم (١٨٤٥).
[27] برقم (٢٤٨).
الالوكة
إثبات حوض نبينا - صلى
الله عليه وسلم - وصفاته
الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي صلى
الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك - رضي
الله عنه - قال: سئل رسول
الله - صلى
الله عليه وسلم - عن الكوثر؟ فقال: ((هو نهر أعطانِيه اللهُ - عز وجل - في الجنة، ترابُه مسكٌ، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، تَرِدُه طيرٌ أعناقُها مثلُ أعناق الجُزُر))، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، إنها لناعمة، فقال: ((أَكَلتُها أنعمُ منها)).
وفي رواية: سُئِل رسول
الله - صلى
الله عليه وسلم -: ما الكوثر؟ قال: ((ذاك نهر أعطانيه
الله - يعني في الجنة - أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيها طير أعناقها كأعناق الجُزُر))، قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول
الله - صلى
الله عليه وسلم -: ((أَكَلَتُها أَنْعَمُ منها))[1].
عن ثوبان - رضي
الله عنه - أن نبي
الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((إني لَبِعُقْرِ حوضي، أذودُ الناسَ لأهل اليمنِ، أضربُ بعصايَ، حتى يرفضَّ عليهم))، فسئل عن عَرضِه؟ فقال: ((من مقامي إلى عُمَان))، وسئل عن شرابِه؟ فقال: ((أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يَغُتُّ فيه مِيزابانِ يمدَّانِه من الجنة، أحدهما من ذَهَبٍ، والآخر من وَرِقٍ)).
وفي رواية: ((أنا عند عقرِ حوضي، أذودُ الناسَ عنه لأهل اليمن، إني لأضربُهم بعصايَ، حتى يرفضَّ عليهم، وإنه ليَغُتُّ فيه مِيزابَانِ من الجنة، أحدُهما من وَرِقٍ، والآخر من ذَهَبٍ، ما بين بُصْرَى وصنعاءَ، أو بين أَيْلَة ومكة، أو قال: من مقامي هذا إلى عُمَان...))[2].
فيه مسائل:
المسألة الأولى: معاني الكلمات:
قوله: ((أعناق الجُزُر)): جمع جَزُور، وهي الإبل.
قوله: (إن تلك لطيرٌ ناعمة)؛ أي: سِمَان مُتْرَفة؛ قاله ابن الأثير في النهاية.
قوله: ((إني لَبِعُقْرِ حوضي)): بضم العين وإسكان القاف، وهو موقف الإبل من الحوض إذا وردت، وقيل: مؤخره.
قوله: ((أَزُود الناسَ لأهل اليمن بعصايَ حتى يرفضَّ عليه)): معناه: أطرد الناس عنه غيرَ أهل اليمن؛ ليرفضَّ على أهل اليمن، وهذه كرامةٌ لأهل اليمن في تقديمِهم للشرب منه؛ مجازاة لهم بحسن صنيعهم وتقدُّمهم في الإسلام.
قوله: ((يرفضَّ عليهم))؛ أي: يسيل عليهم، قال أهل اللغة والغريب: وأصله من الدمع، يقال: ارفضَّ الدمعُ: إذا سال متفرقًا.
قوله: ((يَغُتُّ فيه مزابان يمدانه)): يغت بفتح الياء وبغين معجمة مضمومة ومكسورة، ثم مثناة فوق مشددة، قال الهروي: ومعناه يدفقان فيه الماء دفقًا متتابعًا شديدًا.
قوله: ((يَمُدَّانه)): بفتح الياء وضم الميم؛ أي: يزيدانه ويكثرانه.
قوله: (فسئل عن عَرضِه، فقال: ((من مقامي إلى عمان))، وفي رواية: ((وإن عرضه ما بين أَيْلَة إلى الجُحْفَة))، وفي رواية: ((بين ناحيتيه كما بين جَرْبَا وأَذْرُح))، قال الراوي: هما قريتان بينهما مسيرة ثلاث ليالٍ، وفي رواية: ((عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة))، وفي رواية: ((قدر حوضي كما بين أَيْلَة وصنعاء من اليمن))، وفي رواية: ((ما بين نَاحِيَتَيْ حوضي كما بين صنعاء والمدينة)).
أَيْلَة: بفتح الهمزة، وإسكان الياء، وفتح اللام، وهي مدينة في الشام على ساحل البحر، متوسطة بين مدينة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - ودمشق ومصر.
الجُحْفة: بفتح الجيم وإسكان الحاء، وهي ما بين مكة والمدينة.
جَرْبَا: بفتح الجيم، وراء ساكنة، ثم باء موحَّدة، ثم ألف مقصورة [قال الحافظ: أما جرباء، فهي بفتح الجيم وسكون الراء بعدها موحدة، بلفظ تأنيث أجرب، قال عياض: جاءت في البخاري ممدودة، وقال النووي في شرح مسلم: الصواب أنها مقصورة وكذا ذكرها الحازمي والجمهور، قال: والمد خطأ وأثبت صاحب التحرير المد وجوز القصر، ويؤيد المدَّ قولُ أبي عبيد البكري: هي تأنيث أجرب.].
أَذْرُح: بفتح الهمزة، وإسكان الذال، وضم الراء، وهي مدينة في طرف الشام.
عَمَّان: بفتح العين، وتشديد الميم، وهي بلدة بالبَلْقَاء من الشام.
قال القاضي عياض:
"وهذا الاختلاف في قدر عرضِ الحوض ليس موجبًا للاضطراب؛ لأنه لم يأتِ في حديث واحد؛ بل في أحاديثَ مختلفةِ الرواةِ عن جماعة من الصحابة سمعوها في مواطن مختلفة، ضرَبَها
النبي - صلى
الله عليه وسلم - في كل واحد منها مَثَلاً لبُعد أقطار الحوض وسَعَته، وقرب ذلك من الأفهام؛ لبُعد ما بين البلاد المذكورة، لا على التقدير الموضوع للتحديد؛ بل للإعلام بعظم هذه المسافة، فبهذا تُجمَع الروايات".
قال النووي:
"وليس في القليل من هذه منع الكثير، والكثير ثابتٌ على ظاهر الحديث، ولا معارضة، والله أعلم"[3].
المسألة الثانية: نؤمن بالحوض والكوثر:
قال صاحب سلم الوصول:
وَحَوضُ خيرِ الخلقِ حقٌّ وبهِ
يَشْرَبُ في الأخرى جميعُ حزبِهِ
وقال في المعارج:
"وقد ورد في ذكر الحوض والكوثر، وإثباتِه وصِفتِه من طرق عن جماعة من الصحابة عن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - واشتهر واستفاض، بل تواتَرَ في كتب السنة من الصحاح والحِسان والمسانيد والسنن".
قلت: بل أفرده بعض العلماء بالتصنيف؛ فمنهم: بقية بن مخلد، له جزء في الحوض والكوثر، وكذا أبو القاسم خلف بن عبدالملك بن مسعود بن باشكوال له ذيل عليه.
والإيمان بالحوض والكوثر من الأمور الغيبية التي صحَّ بها الخبر، فيجب الإيمان به، فهي من ضمن الإيمان باليوم الآخر.
الحوض لغةً: هو مجمع الماء.
واصطلاحًا: يرادُ به حوض
النبي - صلى
الله عليه وسلم - في عرصات يوم القيامة.
هل الحوض خاصٌّ بالنبي - صلى
الله عليه وسلم - أم لكل نبي حوض؟
على خلاف بين أهل العلم، وسبب الخلاف في هذه المسألة ومَنشؤه حديث رواه الترمذي عن سَمُرة قال: قال رسول
الله - صلى
الله عليه وسلم -: ((إن لكل نبي حوضًا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردةً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردةً))[4].
وهذا الحديث اختُلِف في وصله وإرساله، ومن ثَمَّ في صحته وضعفه، فمَن أثبته قال: إن الحوض ليس خاصًّا بالنبي - صلى
الله عليه وسلم - ومَن ضعَّفه قال بالخصوصية.
قال الحافظ ابن حجر:
المُرسَل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن؛ فالحديث مرسل، فمَن يعمل بالمرسل من الفقهاء، فقد رأى أن الحديث صحيحٌ وثابت، والاستدلال به جائز، ومَن كان لا يقبلُ المُرسَل، أو لا يعمل به، أو لم يَثبُت لديه هذا الحديث - وهو مذهب المحدِّثين - فلا يثبت، وعليه فلا يُثبِت لغير
النبي - صلى
الله عليه وسلم - حوضًا إلا أن يصح النقل من غير هذه الطريق.
وقال أيضًا جمعًا بين القولين: فإن ثبت فالمختصُّ بنبينا - صلى
الله عليه وسلم - الكوثر يصب ماؤه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، فوقع الامتنان
عليه به في الصورة المذكورة.
قلتُ: يشير إلى حديث عن أنس - رضي
الله عنه - قال: بَيْنَا رسول
الله - صلى
الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا؛ إذ أغفى إغفاءةً، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: ((أُنزِلتْ عليَّ آنفًا سورة))، فقرأ: بسم
الله الرحمن الرحيم: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 - 3]، ثم قال: ((أَتَدْرُون ما الكوثر؟))، فقلنا:
الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه نهرٌ وَعَدَنِيه ربي - عز وجل -
عليه خيرٌ كثير، هو حوضٌ تَرِدُ
عليه أمتي يوم القيامة، آنيتُه عدد النجوم، فيُختَلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدثتْ بعدك))[5].
اعلم أنه ليس كل المسلمين يشربون من الحوض؛ فعن أنس - رضي
الله عنه - عن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((ليَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ، حتى عَرَفتُهم اختُلِجوا دوني، فأقول: أصحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك))[6].
فكن أخي حريصًا على اتباع
النبي - صلى
الله عليه وسلم - وسنته، وكن بعيدًا كل البعد عن اتباع أهل الأهواء والبدع.
اعلم أن مَن يُرَدُّ عن الحوض، إما أن يكون المقصود به أهل الأهواء والبدع، وذلك لقوله: (أمتي أمتي)، وأما ما ورد من لفظ (أصحابي)؛ فالمقصود به مَن ارتدَّ من العرب بعد موت
النبي - صلى
الله عليه وسلم - فإذا رآهم
النبي - صلى
الله عليه وسلم - على الحوض، وهو يعلم أنهم آمنوا به، ولا يعلم أنهم ارتدُّوا؛ لأنه لا يعلم الغيب، وليس المقصود أن الصحابة ارتدوا كما فسَّره الخوارج، عليهم من
الله ما يستحقونه.
هل الصراط قبل الحوض، أم العكس؟
هذه المسألة مما اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
1- أن الحوض قبل الصراط، وحجَّتهم أن الصراط يصرفُ عنه بعض وارديه إلى النار؛ فلو كان بعد الصراط لصَعُب عليهم الوصول إليه؛ حيث إنه لا يَعْبُره إلا مَن يدخل الجنة، وهذا ما رجَّحه القرطبي والغزالي، وهو قوي مُعتَبر.
2- أن الصراط قبل الحوض، وحجَّتهم أن مقتضى الحال أن يكونَ الحوض قريبٌ من الجنة، فيصب المِيزَابان من الكوثر الذي في الجنة إلى أرض الحوض.
3- أن الأمر محتمل هذا وذاك، وجمعوا بين القولين بأن قالوا: إن الحوض كبير وعظيم، فلا مانع أن يكون قبل الصراط وممدودًا إلى ما بعده.
ومن العلماء مَن توقَّف ولم يقطع بشيء، وعلَّلوا ذلك بأنه أمرٌ غيبي، ولا نَمِيل إلى قولٍ إلا عند وجود النص، وهو غير متوفِّر هنا، والعلم عند
الله تعالى.
أولُ الشاربين من الحوض:
هم فقراء المهاجرين، كما ثبت في حديث ثوبان - رضي
الله عنه - أن الرسول - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((أول الناس ورودًا
عليه فقراء المهاجرين، الشُّعْث رؤوسًا، الدُّنس ثيابًا، الذين لا ينكحون المتنعِّمات، ولا تُفتَح لهم السُّدَدُ))[7].
وكذا من أول الشاربين أهلُ اليمن؛ كما في حديث الباب الذي مرَّ معنا.
وصف الحوض: عرضه وسَعته:
تقدم الكلام على سَعته وعرضه في المسألة الأولى.
شرابه:
في حديث ثوبان - رضي
الله عنه -: ((أشد بياضًا من اللبن، وطعمه أحلى من العسل)).
مصدره:
في حديث ثوبان - رضي
الله عنه -: ((ميزابان يمدَّانه من الجنة، أحدهما من ذَهَب، والآخر من وَرِق)).
رائحة الماء:
في حديث عبدالله بن عمرو - رضي
الله عنهما -: ((وريحه أطيب من المسك))[8].
كيفية الشرب منه:
قال أنس - رضي
الله عنه -: قال نبي
الله - صلى
الله عليه وسلم -: ((ترى فيه أباريق الذهب والفِضَّة كعدد نجوم السماء))[9].
اعلم أن من الأخطاء ما اشتهر على ألسنة بعض الدعاة من أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - هو الذي يسقي الناس حيث يدعو أحدهم قائلاً: "اللهم اسقِنا من يديه شربةً لا نظمأُ بعدها أبدًا"؛ وذلك لأنه لا يوجد في الأحاديث ما يدل على ذلك.
هل الكوثر هو الحوض؟
على خلاف بين العلماء.
والراجح - والله أعلم - أن الحوض غير الكوثر؛ لأسباب:
وصف الحوض غير وصف الكوثر، ففي حديث أنس - رضي
الله عنه - قال: لما عرج بالنبي - صلى
الله عليه وسلم - إلى السماء قال: ((أتيتُ على نهرٍ حافَتاه قبابُ اللؤلؤ مجوَّفًا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر))[10].
أما الحوض، ففي عرصات القيامة.
وأما مَن قال: الحوض هو الكوثر، فاحتجُّوا بحديث أنس - رضي
الله عنه - عند مسلم، وفيه: ((فإنه نهرٌ وعدنيه ربي - عز وجل -
عليه خيرٌ كثير، هو حوض تَرِدُ
عليه أمتي يوم القيامة)).
فقالوا: سمَّى النهر حوضًا، والحوض نهرًا، وهذا من باب تسمية الشيء باسم أصله، وليس لأنهما واحد، أو بتغليب الأصل على الفرع، ومعلوم أن الحوض يصل إليه الماء من الكوثر عن طريق ميزابين؛ أحدهما من ذَهَب، والآخر من فِضَّة، والعلم عند الله.
الحوض يوجد الآن؛ لما ثبت في حديث عن عقبة بن عامر - رضي
الله عنه - أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - خرج يومًا فصلَّى على أهل أُحُدٍ صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: ((إني فرطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن))[11].
وعن أبي هريرة - رضي
الله عنه - عن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي))[12].
قال ابن عثيمين:
يحتمل أنه في هذا المكان لكن لا نشاهده؛ لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض[13].
[1] الترمذي (2542) كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة طير الجنة، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأحمد (13480)، قال الألباني: حسن صحيح؛ المشكاة (5641)، والصحيحة (2514).
[2] مسلم (2301) كتاب الفضائل، وأحمد (22426).
[3] شرح مسلم للنووي (15/ 83 - 84).
[4] الترمذي (2443) وصححه الألباني في الصحيحة (1589).
[5] مسلم (921)، وأبو داود (4749)، وأحمد (12322).
[6] البخاري (6582)، ومسلم (2304).
[7] جزء من حديث عند الترمذي (2444)، وأحمد (22367)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب (3185).
[8] البخاري (6579)، ومسلم (2922).
[9] مسلم (2303).
[10] البخاري (4964).
[11] البخاري (6590 )، ومسلم (2296).
[12] البخاري (6585)، ومسلم (1319).
[13] شرح العقيدة الواسطية (399).