من
الشمائل والصفات المحمدية
العفو والرحمة
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس عفوًا، لا ينتصر لنفسه قط، ولا يغضب إلا إذا انتُهكت محارم الله،
أما في حقه الشخصي، فقد كان عفوًّا حليمًا رحيمًا.
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "خدمتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ قط، وما قال
لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لمَ تركتَه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقًا"[1].
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك
حُرمة الله، فيَنتقِم بها لله"[2].
وقد مكَث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام في مكة ثلاث عشرة سنة مأمورين بالعفو، لا يُقاتلون مَن يُقاتلهم،
ولا يردُّون على الإيذاء بمثله، رغم ما يتعرَّضون له من تنكيل واضطهاد وتعذيب يومي، ورغم ما يُقاسونه من ويلات ومؤامرات
قد بلغت ذِروة الوحشيَّة.
وقد ذهب عبدالرحمن بن عوف وبعض الصحابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في
عزٍّ ونحن مشركون، فلما آمنَّا صِرنا أذلة، فقال: ((إني أُمرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا))[3].
ومن المواقف التي تدل على حِلمه وعفوه ورحمته أنه في غزوة أحد، مرَّ جيش المسلمين في أثناء سيره ببستان رجل كافر
أعمى يُدعى: مربع بن قيظي، فلما سمع حِسَّ الجيش، قال: لا أُحِل لك إن كنت نبيًّا أن تَمرَّ في حائطي، وأخذ في يده حفنة
من تراب، ثم قال: لو أعلم ألا أصيب بها غيرَك لرميتُ بها وجهَك، وأساء الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم.
فابتدره القوم ليقتلوه ويؤدِّبوه؛ عقابًا له على سوء أدبه مع خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - لكن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بحِلم وعفو ورحمة أمرهم أن يتركوه، ولا يمسُّوه بسوء قائلاً لهم: ((دعوه؛ فإنه أعمى القلب أعمى البصر))[4].
وفي غزوة أحد أيضًا خَلَص المشركون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجرحوا وجهه، وكسروا رَباعيتَه، وهشَّموا الخوذةَ
على رأسه، ورموه بالحجارة، ونشبت حلقتان من المغفر في وجهه، وسال الدم من وجنته.
وأخذت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَغسِل الدم عن وجهه، فكان الدم يَزيد حتى أخذت قطعة من الحصير،
فأحرقتْها وألصقتها بالجراح، فاستمسك الدم[5].
ثم إننا لنعجب أن نرى إزاء هذا الإيذاء الظالم والتعدي الفاحش إحسانًا وفضلاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
حيث كان يمسح الدم عن وجهه قائلاً: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
قال أبو حاتم: يعني هذا الدعاء أن قال يوم أحد لما شجَّ وجهَه: "اللهم اغفر لقومي ذنبهم بي من الشجِّ لوجهي"[6].
وقال أبو بكر الجزائري:
"مظاهر رحمة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - تجلَّت في عفوه عن الأعمى الذي سبَّه ونال منه حتى همَّ أصحابه
بقتله فأبى عليهم، وقال: ((دعوه؛ فإنه أعمى القلب أعمى البصر))، وفي قوله وهو يُجفِّف الدم عن وجهه الكريم
الشريف: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))"[7].
ومن مواقف رحمته - صلى الله عليه وسلم - وعفوه عن أعدائه، أنه بعد انتهاء معركة بدر واستقرار الرأي على قَبُول
الدية في الأسرى وإطلاقهم، وكان من بين هؤلاء الأسرى أبو عزة عمرو بن عبيدالله بن عثمان بن أهيب بن حذافة،
وكان فقيرًا محتاجًا ذا بنات، فقال: يا رسول الله، لقد عرفتَ ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ،
فمنَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عليه ألا يُظاهر أحدًا، فقال أبو عزة يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
مَن مُبلِغٌ عني الرسولَ محمدًا
بأنك حقٌّ والمليك حميدُ
وأنت امرؤ تدعو إلى الحقِّ والهدى
عليك من الله العظيمِ شهيدُ
وأنت امرؤ بُوِّئت فينا مَبَاءة
لَهَا دَرَجَاتٌ سَهْلَةٌ وَصُعُودُ
فَإِنَّكَ مَنْ حَارَبْتَهُ لَمُحَارَبٌ
شقيٌّ ومَن سالمتَه لسعيدُ
ولكن إذا ذُكِّرت بدرًا وأهله
تأوب ما بي حسرة وقعود[8]
ومن ذلك أيضًا ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "كان ناسٌ من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء،
فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة"[9].
فانظر إلى هذا الموقف الجليل الذي فيه الرحمة بالأسرى، والحكمة في إدارة الأمور، والاهتمام بالعلم وتحصيله، سابقًا
بذلك كلَّ الأنظمة العصرية التي أقرَّت الخدمة الاجتماعية كعقوبة لبعض المخالفات، وإن لم ترقَ إلى هذا المستوى
الشامخ في معاملة الأسرى.
ومن مواقف
العفو أيضًا أن كفار قريش قبل صُلح الحديبية بعثوا خمسين رجلاً منهم لمعسكر المسلمين ليلاً، وأمَرُوهم أن
يطوفوا بمعسكر المسلمين؛ ليصيبوا لهم أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غِرَّة، وكان على رأسهم
مكرز بن حفص، ولكن جند المسلمين البواسل استطاعوا أن يأسروهم جميعًا إلا رئيسهم مكرز الذي فرَّ هاربًا، وكان على
حراسة جيش المسلمين محمد بن مسلمة، فأتى بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعفا عنهم جميعًا، وخلَّى
سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة والنَّبل[10].
ومن مواقف عفوه - صلى الله عليه وسلم -: ما رواه جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أنه غزا مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ناحية نجد، وفي طريق العودة أدركتهم الظهيرة في وادٍ كثير العِضَاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وتفرَّق الناس في العضاه[11] يَستظلون بالشجر، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلَّق بها سيفه.
قال جابر: فنمنا نومةً ثم إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدْعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي من المشركين من أعدائه،
يقال له: غورث بن الحارث، جالس.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا[12] فقال
لي: مَن يمنعك مني؟ قلتُ: الله)).
فرعب الرجل وسقط السيف من يده، فتناوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعه، وقال للرجل: ((مَن يمنعك مني؟))،
قال: كن خير آخذ، قال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟))، قال: لا، ولكن أُعاهِدك على ألا أُقاتِلك، ولا أكون مع قوم يُقاتلونك.
قال جابر: فها هو ذا جالس، ثم لم يُعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلَّى سبيله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فأتى قومه فقال: جئتُكم من عند خير الناس[13].
ويتجلَّى أعظم مواقف
العفو بعد أن تحقَّق النصر العظيم في فتح مكة المبين؛ حيث صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في البيت، ثم دار وكبَّر في نواحيه، ثم خرج من البيت وقريشٌ قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنع، فقال لهم - صلى
الله عليه وسلم -: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدَق وعده، ونَصَر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم
فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوةَ الجاهلية وتعظُّمها بالآباء،
الناس من آدم وآدمُ من تراب؛ ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ï´¾ [الحجرات: 13])).
ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.
قال: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء))[14].
إن عفو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أعدائه بعد أن صاروا أسارى في يده، يَظنون كل الظن أنهم سيُؤخذون بذنوبهم
وجرائمهم، وقد نشِف الدم في عروقهم، وتيبَّست أعصابهم، واصفرَّت جلودهم من شدة ما هُم فيه من الفزع والخوف، أن يقضي
عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يستحقُّونه، قضاء يقضي عليهم، أو يَضرِب عليهم الرقَّ ويجعلهم عبيدًا يتقاسمهم
المجاهدون، فما زال ما فعلوا بالمستضعفين شاخصًا في النفوس، وما زالت أيديهم تَقطُر من دماء الشهداء، وما أذاقوه للمؤمنين
بمكة من ويلات وعذابات لم يُمحَ بعدُ من الذاكرة.
إن غاية ما يرجى من نفس بشريَّة ظُلِمت بكل هذه الألوان من الظلم، ثم انتصرت وتمكَّنت من عدوِّها الجبار الطاغية -
أن تقتصَّ منه بغير إسراف أو تعدٍّ.
ولكنها النفوس التي حلَّقت في سمو أخلاقي عجيب، إنه عفو عام بلا تثريب، فلله در هذه النفوس الربانية، ولله درُّك يا نبي الرحمة!
~