رمضان
فرصة العُمر: لو يعلم الناس ما في
رمضان مِن مِنَح وعَطايا ربَّانية، لتمنوا أن تكون السنةُ كلها رمضان. كثير
من الناس وافاهم الأجل خلال هذه السنة، بل في شعبان، بل في الأسبوع الأخير منه، بل في اليوم الأخير منه،
ماتوا ولم يُدركوا رمضان، ولكم تمنوا وهم أحياء أن يُدركوا
رمضان ليفعلوا ويفعلوا من أنواع الطاعات والعبادات،
ولكنهم أفضوا إلى ما قدموا {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وأنتَ منَّ الله عليك
في عُمرك، وها أنت تُدرك
رمضان فإيَّاك من التفريط، واغتنم
فرصة إدراكك لرمضان، واستفد من أمنِيَات الأموات
التي لن تتحقق أبدًا، وكُن نبيهًا فَطنًا فربَّما أتممت
رمضان وربَّما لا يُكتب لك إتمامه، وربَّما أدركت
رمضان الموالي،
وربَّما تُصبح في عِداد الأموات.
عباد الله، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "يا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قالَ: «وَما أَعْدَدْتَ لَهَا» ؟
فَلَمْ يَذْكُرْ كَبِيرًا، قالَ: وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قالَ: «فأنْتَ مع مَن أَحْبَبْتَ»[1]. المشكلة ليست في الحرص على
وقت قيام الساعة، فهذا أمر لا يطَّلِع عليه إلا الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، فالساعة
كائنة لا محالة في ذلك، وإذا مات الإنسان قامت قيامته، لكن السؤال الكبير الذي نغفل عنه هو: ماذا أعددنا
لقيام الساعة؟ ماذا أعددنا للآخرة؟ ماذا أعددنا لساعة رحيلنا وموتنا؟ هذا هو السؤال الأهم من الساعة نفسها،
ولكن مشكلة الإنسان في ترك ما يهمه، والسؤال عمَّا لا يهمه.
وقياس هذا الأمر برمضان فإنه يختلف معه في أمر، ويتفق في أمرِ آخر، يختلف في معرفة توقيت كل منهما، فالساعة
توقيتها مجهول، ورمضان وقت دخوله وتكراره كل سنة معلوم، ويتفقان في ضرورة الإعداد لكلٍّ منهما، بل الإعداد
لرمضان جزء من الإعداد للسَّاعة ولساعة رحيل الإنسان، لماذا؟ لأنَّ:
• صيام
رمضان طريق لمغفرة ذنوبك: قال صلى الله عليه وسلم:
«مَن صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»[2] ، أليس يجدر به أن تعدَّ له إذا كان سببًا في مغفرة ذنوبك؟!
• الصيام والقرآن يشفعان لي ولك: قال صلى الله عليه وسلم: «الصِّيامُ والقرآنُ يَشفعانِ لِلعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ الصِّيامُ:
أَيْ ربِّ، منَعْتُه الطَّعامَ والشَّهواتِ بالنَّهارِ، فشفِّعْني فيه، ويقولُ القرآنُ: منَعْتُه النَّومَ باللَّيلِ، فشفِّعْني فيه، قال: فيَشفَعانِ»[3]،
أليس يجدر بك أن تصومه وتكثر من قراءة القرآن فيه إذا كان سببًا في أن يشفعهما الله فيك ويدخلك الجنة؟!
رمضان فيه خصوصيات لا توجد في غيره من الشهور، إنه شهر:
• فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين، كما أخبر صلى الله عليه وسلم. تفتح أبواب الجنة
وتغلق أبواب النار؛ لكثرة إقبال الناس على الطاعات وإدبارهم عن المعاصي، وهذا معلوم مشاهد، وتسلسل مردة
الشياطين؛ عونًا من الله لعباده لتحقيق مقاصد الصيام.
• وفيه ليلة القدر والاعتكاف: قال أبو سعيد الخُدْري رضي الله عنه: "اعْتَكَفَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم عَشْرَ الأُوَلِ مِن رَمَضَانَ واعْتَكَفْنَا معهُ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقالَ: إنَّ الذي تَطْلُبُ أمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا
معهُ فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: إنَّ الذي تَطْلُبُ أمَامَكَ، فَقَامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِن رَمَضَانَ فَقالَ: «مَن
كانَ اعْتَكَفَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَرْجِعْ، فإنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وإنِّي نُسِّيتُهَا، وإنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، في وِتْرٍ...»[5].
إلى غير ذلك من خصوصيات الشهر الفضيل، والمحروم حقيقة من ضيَّع
فرصة عمره، روى ابن حبان في صحيحه: صعِد رسولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم المنبرَ فلمَّا رقِي عَتبةً قال: «آمينَ» ثمَّ رقي عتبةً أخرى فقال: «آمينَ» ثمَّ رقي عتبةً ثالثةً فقال: «آمينَ» ثمَّ
قال: «أتاني جبريلُ فقال: يا محمَّدُ، مَن أدرَك رمضانَ فلم يُغفَرْ له فأبعَده اللهُ، قُلْتُ: آمينَ، قال: ومَن أدرَك والديه أو أحدَهما
فدخَل النَّارَ فأبعَده اللهُ، قُلْتُ: آمينَ، فقال: ومَن ذُكِرْتَ عندَه فلم يُصَلِّ عليكَ فأبعَده اللهُ، قُلْ: آمينَ، فقُلْتُ: آمينَ»[6] .
عبادَ الله، كيف نستغل
فرصة إدراكنا لرمضان حتى يتحقق لنا الفوز الذي وُعدنا به في رمضان؟ هذا ما سأختصره- لي
ولك- في النقط الآتية، فأعرني سَمعك وقلبك؛ لأن المَقام يقتضي الفهم ثم العمل بعد ذلك:
أدرك أولًا المغزى والفائدة والمقصد من الصيام:
وهي سبعة مقاصد نستفيدها كلها من الآيات 183 إلى 186 من سورة البقرة:
الأولى: تحقيق التقوى؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[البقرة: 183].
والثانية: اليسر؛ قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فإياك أن تبحث عن التعسير فيزداد
إنفاقك على بطنك، وإياك من الشبع غير المعتاد فتضيع حكمة الصيام.
والثالثة: إكمال العدَّة؛ قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185]، فرمضان دورة متكاملة وإياك من الحماسة الأولى
ثم بعدها تتراخى.
والرابعة: تعظيم الله؛ قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].
والخامسة: الوصول إلى مرتبة الشكر؛ قال تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، وقال في سورة آل عمران:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
والسادسة: أن تشعر بقرب الله منك؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].
والسابعة: تحقيق الرشد؛ قال تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
ثانيًا: ضع برنامجًا مناسبًا لتحقيق المقاصد السبعة السابقة في رمضان، وأقترح عليك مثلًا أن يتضمن البرنامج الآتي:
• عدد مرات ختمك القرآن خلال الشهر.
• برنامج للمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، وصلاة التراويح مع الجماعة وبرنامج لقيام خاص بك.
• برنامج صدقات خاصة بك.
• برنامج لتفطير الصائمين.
• برنامج للأسرة يتضمن صوم الأطفال وجلسات للذكر وقراءة القرآن، وتفسير آية أو شرح حديث بصورة يومية منتظمة.
• حدِّد أدعية بالأمور التي تريد من الله أن يحقِّقها لك لتكررها عند الإفطار وفي السحر يوميًّا، وتعرَّف على جوامع الأدعية
مثل: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنِّي...».
• حدِّد خلقًا سيّئًا تريد التخلصَ منه؛ فرمضان خير مُعين لك؛ كالتدخين وظاهرة السب والشتم أو الغضب...
• حدِّد خلقًا حسنًا تُريد تنميته كالمحافظة على الصلاة والالتزام بالحجاب الشرعي...
وكل منَّا أدرى بما سيضيفه في برنامجه، واحرص أن يكون مكتوبًا؛ لأنك في مدرسة الصيام التي يُرجى
منها تحقيق النتائج إن صدقت عزيمتك، وصحَّ توكُّلك على الله.
فاللهم بارك لنا في رمضان، واهدنا فيه لأحسن الأخلاق فإنَّه لا يهدي لأحسنها إلا أنت،
واصرف عنَّا سيِّئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت. (تتمة الدعاء).
~