زوابع الياسمين
تناول رشفة أخيرة من فنجان
قهوتها .. وبأصابع تنوي
الرحيل سحبَ مسبحته المسجاة
على الطاولة .. نهض كمن لسعه عقرب
الوقت فقام ينفض الزمان
والمكان وبقايا عمر فائت .
لم تقل شيئاً .. لكنَّ نظراتها إليه
قالت الكثيرالكثير من الرجاء ،
من التوسل ، من تذكيره بأن عليه
ألَّا يغادر الفصول .. وأن يبقى
ربيعاً مزهواً .. وأن يبقى
الاخضرار له عنوان .
عصفورة أخرى .. على غصن
آخر .. تهمسُ إليه بالكثير أيضاً ..
الكثير من الدفء ، من الحنان ،
من الأمل وتدعوه كي يشرب
من عينيها المزيد .
عاتَبَت نفسها في البدء ولامتها
كثيراً .. كيف تستوقفي يا نفسُ
من ينوي الرحيل ؟! " ليست كل
العصافير سواء " .. وهي تدرك
تماماً هذا .. لكنَّها أخبرته أنه لا فرق
بين عصفورة وأخرى ! كلها طيور
من ورق .. لا تستقرُّ على أرضٍ
ولا تنتمي إلى سماء .. تبني عشاً
وتهدم آخر .. تعربد كثيراً في
الهواء .. فلا داعٍ لكي تحزم
مشاعرك وتثنيها تحت إبطيك
وترحل ! .. لا ترحل كلهن سواء .
هو لم يصدق كلامها الأخير ؛
فالياسمين يشتم رائحة العصافير
وهي في باطن الكتب .. يدرك
جيداً أنه يوجد فرق شاسع بين
عصفورة من ورق وأخرى
تختال على الغصن .. لكن الياسمين
كعادته لا يحب الجِدال عندما ينوي الفرار .
ترجلَّ
الياسمين عن مسافات
كانت له .. خلع نعليه وخطوات
كانت له ومضى إلى قدره حافياً .
يحمل مسبحة تتلألأ أحجارها
وقصيدة فاحت من جنباتها قوافي
أبي العتاهية وسلالاً من عناقيد الأمل !
منىَّ
الياسمين نفسه وحلم كثيراً
بقهوة تنساب من الأحداق ، تشتعل
لها العينان ، تغرد فيها الهمسات
ولا تذوب مهما حاصرتها ثلوج
المسافات وفرقت بينهما أنامل
وسطور .. وفي القاع حكايات
خرافية ، تتجدد ، تطيل عمر
المساء ، توقد لأجلها الشموع .
أقفل
الياسمين أبواب الماضي
وأحكم إغلاق نوافذ الحنين ..
لا داعٍ لتقلب الصور في الأوردة
والشرايين ؛ فالمشوار طويل
يا ياسمين والذكريات تقتل الشغف
المتطاير مع فراشات الحقول .
رحل
الياسمين وبقايا قهوتها تستلقي
على شفتيه .. وأنامل نظراتها
تداعب أجفان الكرى في عينيه ..
وهمسات ذائبة في فنجان الروح
كانت تتوسل بقاءه ! لكنها ذابت
مع أول خيط للشمس عانق كهفاً
من الثلج .. لامس مسافات من
الصقيع .. مسح بكفٍّ
دافئة
زوابع الياسمين .