أي قلب تحمل
طَرَقَ الباب خلفه وخرج غاضبًا لا يعرف إلى أيِّ اتجاه يَذهب، لقد تحوَّل حلمه إلى سراب، وجهُه صار أسود وهو كظيم، أظلم النهار أمامه، طار أملُه، قبَّلت زوجتُه قدماه أنْ لا يغضب ولا يحزن، فهذا قدر الله.
لكنه خرَج، خرج ولم تَعلم إلى أيِّ جهة قرَّر الذَّهاب إليها.
مرَّ على خروجه أكثر من عشر سنوات، ذاقت زوجته الأمرَّين؛ مرارة العيش في سنَة جدب وقحط، سنَةٍ لا مطر فيها ولا خضرة، ومرارة فقر مدقع قد أكلَ النعيم الذي كانت تتمتع به الأسرة، غاب حبيبها فغاب معه الأمل، غاب الخير، غابت معه الفرحة.
خرج (أمين) إلى المدينة، ظلَّ فيها حابسًا نفسَه، لا يرى أهلًا ولا جارًا، ولا أمًّا ولا زوجةً، ولا ولدًا ولا أخًا.
صار مقطوعًا مِن شجرةٍ، جلس مع بعض أصدقائه الذين حصَل عليهم في غربته، يقضي عمره مازحًا مهرِّجًا بينهم، كان من ضمن أصدقائه معلمٌ لمادة اللغة العربية في مدرسة نموذجية في المدينة، كان المعلم يجلس في مجلس مع بعض أصدقائه يَحكي ما دار بينه وبين بناته الطالبات في الفصل، كان المعلم يحكي حكاية طفلةٍ تَمنَّى المعلِّم نفسه أن كانت هذه الطفلة ابنته، إنها جميلة، ذكية، قوية الإحساس، تفهم سريعًا، فلا يكاد المعلم ينتهي من درسه حتى تعيد كل ما ألقاه.
كلما حضر المعلم المجلس يشتاق الحاضرون إلى سماع ما دار بين المعلم وطفلته في المدرسة، حضر المعلم من المدرسة حاملًا في يديه مجموعة من الدفاتر ليقوم بتصويبها ووضْع بعض الملاحظات عليها.
وضع ما بيده على المنضدة القابعة أمامهم، وقبل الخروج ناداه صديقه: ماذا حدث مع طفلتك أيها المعلم القدير؟
قال المعلم وهو على استعجال من أمره وكان خارجًا من المجلس: دفترُها أمامك على المنضدة، افتح واقرأ ما كتبت في تعبيرها، كان الموضوع "رسالة إلى والدي".
تقدَّم الصديق ليُفتش عن دفترها، وعندما كان مشغولًا في تقليب الدفاتر وقع نظره على دفترها، أخرجه وبدأ بتقليب الدفتر حتى وصل إلى تلك الرسالة، بدأ الرجل يقرأ: "إلى قمري الغالي، إلى مَن غاب عن مجرَّته، عن شمسه ونجومه، إلى مَن حرمني وحرم شمسه النظر إليه.
مرت أيام تلو أيام، وشهر يلحقه شهر، ولا أرى بَدْري ينير في منتصف شهرِه أعوامًا تلو أعوام..."!
كان الرجل يقرأ الرسالة وعيناه تفيض بالدمع، أقفل الرجل الدفتر، ولم يستطع أن يكمل قراءة الرسالة.
فما أن عاد المعلم من عمله إلى مجلسه، وقع نظره على عيني صديقه، فإذا به يرى دموع عينه تنحدر على خدَّيه وكأنها سيل ينهمر من قمة مرتفعة، عرف حينها أن صديقه قد اطَّلع على رسالة الطفلة!
أخذ المعلِّم الدفاتر، وبدأ يصوب كل ما أحضره معه من الدفاتر حتى غروب الشمس، قام المعلم يريد أن يعود إلى داره؛ فقد بدأت الشمس بالغروب.
وعند خروجه أمسك صديقه على يديه قائلًا له: أرجوك أريد أن أرى تلك الطفلة، لقد اشتاق قلبي لرؤيتها.
وضع المعلم يده على يدِ صديقه محركًا رأسه قائلًا: غدًا يا صديقي إن شاء الله!
عاد الرجل إلى بيته وهو يَحمل هموم الدينا، لقد أثَّرت فيه تلك الرسالة!
أمسى ليله لا ينام، تذكر كلَّ ما دار بينه وبين زوجته، تذكر بناته الثلاث، أعاد ذكريات الماضي، تذكر قوله لزوجته بعد أن عادت من المستشفى خافية أمرها عنه، عادت فلما نظر إليها رأى كل الهموم والحسرات قد لصقت في جبينها، سألها عن السرِّ كادت تُخفي عليه لولا أنه طمأنها أنه زوجها، فهو شريكها في الخير والشر.
قالت له: وقعت في مشكلة لم يكن لي فيها إرادة، استدرجها ليعرف ما هي مشكلتها، لكنها كانت خائفة منه، فلطالما كان يَحلم بصبي يَحمل عنه همومه، كان يقول لزوجته: إن لم يكن صبيًّا لأُقهرنَّ بقية عمري، فإني لا أصبر كثيرًا!
ألحَّ عليها حتى عرف الحقيقة..
فقالت له: لقد ذهبت إلى الدكتورة وقد أخبرتني أنني أحمل في بطني فتاة رابعة!
تذكر الرجل كيف اسودَّ وجهه وهو كظيم، تذكر كيف ترك أهله!
لم ينم الرجل ليلَه؛ إنه يفكر في بناته الأربع، وكأن الرسالة التي قرأها ما هي إلا جرس دقَّ بابًا قد أُقفل منذ أعوام.
وما أن جاء الصباح حتى جهَّز نفسه استعدادًا ليرى تلك الطفلة البريئة التي حرَّكت مشاعره، حضر الطابور، سمع صوتها تتلو آيات من كتاب الله، دخل وكأنه موجِّه جاء لزيارة الأطفال، أشار إليه المعلِّم: إنها هناك، صاحبة الشعر الأصفر، والحقيبة الزرقاء.
تقدَّم نحوها، سلم عليها، فردت عليه السلام مع بقية زملائها.
سأل الرجل كلَّ طفلة عن اسمها، فلمَّا وصل إليها قالت: اسمي (سلوى أمين).
ترك أمين المعلم ولم يلتفت إليه، دعاه المعلم أن توقف، لكنه لم يُلقِ له بالاً، توجه نحو موقف السيارات ليعود إلى قريته؛ فقد اشتاق كثيرًا إلى بناته وزوجته.
وصل أمين إلى قريته بعد مرور أكثر مِن ثلاثة عشر عامًا، وصل إلى داره فلم يجد أهله في الدار.
سأل عنهم فقيل له: لقد توجهت زوجتك إلى المدينة مع أخيها.
سأل عن العنوان، ثم ذهب، وعند وصوله رأى نفس الطفلة التي كانت بالمدرسة قابعةً على باب الدار، رأته فسلمت عليه قائلةً له: أنت الموجِّه؟ لمَ خرجت من الفصل اليوم مسرعًا نحو الخارج؟
رفعها بين يديه قائلًا: أين أبوكِ أيتها الصغيرة؟!
قالت: لقد تركنا ولم يعدْ، إنني لا أعرفه، غاب وأنا صغيرة في بطن أمي!
سألها عن بيتهم، فقالت: إنه هناك.
سار معها إلى أن وصَل إلى قريب مِن البيت، ثمَّ وضع في يدها رسالة مكتوبًا فيها:
ابنتي العزيزة، لقد عاد قمرك وقمر والدتك، إنه مُنتظر في الشارع، هل يُسمح له بالدخول؟
أخذت الفتاة الورقة، وأسرعت إلى الداخل، طرقت غرفة المنزل، أمسكت بيدِ أمِّها وبدأت تقرأ، فلما وصلتْ إلى كلمة (قمرك وقمر أمك) ألقت الرسالة وتوجهت نحو الشارع رافعة صوتها: بابا.. بابا.. وكان ينتظرها على أحرِّ مِن الجمر، تقدَّم إليها فرفَعها بين ذراعَيه، وقبَّلها، لكنها أعادت النظر إلى وجهه قائلة: أي قلبٍ تَحمل ؟! |
|
|
|