أرأيتم إنسانًا يعيش على البر، و في أعماق البحر أيضًا؟ أو يُصاب بملل من الهواء فيغمر رئتيه في بواطن المياه لفترة طويلة؟ أو قرر الطيران بيديه في سماوات الله الفسيحة؟
فهنا تكون الإجابة بنعم، يستطيع الإنسان الغوص في المياه، لكن إذا زُود بوسائل تعينه على ذلك، و لفترة محدودة، و نفس هذا المقال يُقال في حالة الطير بجوار النسور، فلا تستطيع التحليق أيضًا إلا بوسائل، لكن من الاستحالة أن تقضي عمرك كله في أحضان الجو.
إذا فالإنسان له طاقة، و لهذه الطاقة حد، و يتفاوت بني البشر في استعمالها، ما بين استعمال فائق و ضائق، فإذا وصلت لذروتها فيوقفها حد لا تتعداها، فإذا تعدت هذا الخط فسيُطلق عليها الرصاص العشوائي دون هوادة، فهذا منتهى طبيعي للمخالف المتعدي.
إنه العقل، له حدٌ أدنى و أقصى، و فلك يدور فيه، فإذا أخرجه صاحبه من الفلك فسيحدث ما لا يُحمد عقباه، فالعقل إذا انطلق –دون حد- انحرف، و للمهالك انجرف، و أما في كتمه و كبته، و تقييد يديه فهو ضرب من ضروب التقصير، و عطن يُصاب به الفرد بالشئ الكثير، فالفرد الواعي عليه معرفة حد عقله، فكمال التفكير في وقوف التفكير، و إلا سيبحث العقل عن أشياء لا يستطيع حتى الاقتراب منها.
و لا يسعنا سوى ذكر أبرز الصراعات في هذا الصدد، فتراثنا العربي حاوٍ للخلاف بين أهل السنة و المعتزلة، حيث يعتمد أهل السنة في فهم الدين على الأخذ بظاهر اللفظ، دون إعطاء الفرصة لإعمال العقل فيما يحتوي التأويل، خصوصًا في الألفاظ القرآنية، و كان أمامهم جماعة المعتزلة، و هم من اتخذوا من العقل جوهرًا لمنهجهم في التفسير، فدائمًا يبحثون فيما هو وراء اللفظ، و احتدم الصراع بين الفريقين إلى أن جاء “أبي موسى الأشعري”، الذي وفق بين النهجين، فأقر بأن إعمال العقل وحده في فهم الدين لا يكفي، فهناك أمور لا يحتمل العقل أن يفكر فيها، خصوصًا فيما يتعلق بالإيمان، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق باستواء الله عز و جل على العرش، فنجد الإمام الشافعي رحمه الله يقول:”الاستواء معلوم، و الكيف مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة”، فهنا لا مجال للعقل ليزاول مهامه، فهذا حده، لا يطيق التفكير في هذه الأمور لأنها خارجة عن المنطق.
لا سبيل إلا التوازن، عليك بإعمال العقل، فهي نعمة الله لنا، و التاج الذي تميز به الإنسان عن سائر المخلوقات، لكن ضع الحدود نصب عينيك، كي لا تكون غريقًا في أعماق البحار، أو صريعًا هوى من السماء…